المحبة أحد قطبي العبادة

خلق الله بني آدم لعبادته قال الله: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” والعبادة مبناها على ركنين متينين وأساسين عظيمين هما الذل والمحبة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعرف أهل العلم العبادة بقولهم: هي التذلل لله محبة وتعظيما بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا تعريف لها بمعنى التعبد، وأما تعريفها بمعنى المتعبد به فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”، والمقصود أن العبادة مبناها على الذل والمحبة، وسنفرد الكلام هنا عن المحبة ونرجئ الكلام عن الذل إلى وقت لاحق.

محبة الله فرع معرفته والعلم به
المحبة ثابتة لله من الجانبين، أي أن الله يُحِبُّ ويُحَبُّ، وأنكر هذا أهل التعطيل فقالوا المراد بمحبة الله للعبد: “إثابته أو إرادة ثوابه، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه”، وهذا تحريف للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين، إذا علم هذا فلنعلم أن المحبة عموما على أنواع أربعة:
الأول: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن يكون العبد محبا لغير الله كمحبة الله أو أكثر بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وهذه محبة شركية منافية لتوحيد الله عز وجل.
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا تقدم على محبة الله، فهذه لا تنافي التوحيد كمحبة الزوجة والولد وغير ذلك، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها.
الثالث: المحبة لله، وهذه كذلك لا تنافي التوحيد بل هي من كماله فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، والمحبة إن كانت لله فهي في الحقيقة من محبة الله، مثال ذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) ومحبة الصحابة والعلماء وغير ذلك.
الرابع: محبة الله وهذه المحبة كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبون فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا(2) وهذا لا نظير له في محبة المخلوق ولو كان المخلوق من كان، ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله كما قال تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ”(3).
قلت الآية التي أشار إليها ابن القيم رحمه الله اختلف أهل العلم في تفسيرها:
فقد فسروا قوله تعالى: “يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ” بتفسيرين، الأول: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ: أي أن أصحاب الأنداد يحبون أندادهم كما يحبون الله، والثاني: أن أصحاب الأنداد يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن المؤمنين أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم.
وقد رجح ابن تيمية رحمه الله القول الأول، قال رحمه الله تعالى: “إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له”.
واختلف أهل العلم كذلك في تفسير قول الله تعالى: “وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ” على قولين: الأول: “أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم”، والثاني: “إن الذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله”(4)، ورجح ابن القيم رحمه الله الأول لأن محبة المؤمنين لربهم لا تماثلها محبة مخلوق أصلا كما لا يماثل محبوبهم غيره.
ثم محبة الله كما يقول أهل العلم فرع معرفته والعلم به، ولهذا كانت الأسباب الجالبة لها تدور حول العلم والمعرفة، وذلك كقراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه، وكالتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وكدوام ذكره على كل حال، وكإيثار محاب الله على محاب العبد عند غلبات الهوى، وكمطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وغير ذلك والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- كما في الحديث: “ثلاث من كن فيه…”.
2- قال الله: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ”.
3- أندادا: جمع: ندّ، الكفء والنظير.
4- على هذا التفسير: أثبت الله لأصحاب الأنداد نوع محبة له لكنها غير خالصة لذا لم تنفع صاحبها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *