إغلاق دور القرآن وتشريد طلبتها، وحرمانهم من موالاة تعلمهم وحفظهم للقرآن الكريم بدون سند قانوني، يوازي إغلاق المساجد والمصليات بدواعي مختلفة، أبرزها عشوائية التواجد ومخالفة ضوابط التعمير، ومن المعلوم أن الأرض جعلت للمسلم مسجدا وطهورا مما يزيل عراقيل الحصول على فضاء لإقامة الصلاة، كما أن زخرفة البناء وتجميله ليس من شروط صحة إقامة الصلاة في جامع مثلما هو الأمر بسلامة البناء وتوفر مستلزمات التجهيز الذي ينظمها القانون المعد لذلك الغرض خاصة في المدن.
بيد أن الطفرة العمرانية والانتشار العشوائي للأحياء الهامشية وأوضاع البوادي خاصة، تضع تحديات أمام توفير أماكن للصلاة لا يقوى على حلها إلا المحتاجون لذلك، والذين صاروا في حالة تصادم مع شطط تأويل وزارة الأوقاف الذي ظهرت مساوئ تنزيلها في السنوات الأخيرة تجلت في إغلاق ما سمي بالمساجد العشوائية ومنع الناس من استحداث أماكن مؤقتة لإقامة الصلاة في التجمعات السالفة لدواعي أمنية، معتبرين كل مصلى مشروع خارج عن إجماع الأمة أو داع لذلك، مما عرض تأويل الوزارة إلى وصمة الشطط في اتهام الناس بالباطل ومحاكمة نواياهم، وإحداث شرخ في تنزيه بيوت الله عن المهانة وانتهاك حرمتها في سابقة خطيرة تنجر إلى غيرها مما يعتبر مقدسا لذاته أو لدوره، الأمر الذي يهدد بتفكك البنيات والضوابط والروابط الاجتماعية التي ينتج عنها انفراط عقد الأمة وسقوط حضارتها وتشتت كيانها.
وهو ما كان السلف على وعي تام به، فكان يشدد على سلامة تمسك الأمة بدينها وعقيدتها، قال الملك محمد الخامس رحمه الله سنة 1940: “إن من ضيّع دينه ولغته وتقاليده الغالية ضيّع كل شيء”، وتقليد حفظ القرآن وإنشاء المساجد والإنفاق على ذلك من طرف الأفراد والجماعات وأولي الأمر منقبة حميدة حمت لحمة الأمة وسداها، يقول محمد الخامس رحمه الله: “وما كنا لنرضى تقدما لرعايانا المخلصين إلا إذا شربوا من الكأسين، كأس الرقي الدنيوي ليعيشوا أحرارا بين الأمم، وكأس الرشاد الديني لاتباع السنن الأبلج الأقوم، مقتفين نصيحة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام حين قال: “ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا، فإن الدنيا بلاغ الآخرة” 18/11/1946.
فهناك تحدي يخشى على المجتمع من مخاطره، لذلك أريدَ توجيه النخبة المحلية من قبل عاهل البلاد وإرشادها إلى كيفية تنزيل ذلك التوجيه من خلال مساهمته رحمه الله في دعم تطوير المسيد وتحويله إلى مدرسة حرة لرفع التحدي أمام مدرسة الحماية التي تريد أطفالا ولا تريد ثقافتهم، ومن الأمثلة على ذلك: مدرسة التقدم بفاس التي كانت مسيدا سنة 1939م، ومسيد الفقيه محمد الشطي الذي تحول إلى مدرسة النجاح سنة 1943م، ومسيد الفقيه الجيلالي مزوار بمكناس الذي سمي بالمدرسة الإسماعيلية سنة 1944م، ومسيد الفقيه محمد المدور بالرباط الذي تحول إلى مدرسة الخرازين سنة 1939م.
يقول مؤسس مدرسة درب العلو بسلا سنة 1921م: “مدرسة درب العلو مدرسة إسلامية وطنية، مؤسسة لتعليم القرآن الكريم وسائر علوم الدين المأمور كل إنسان بتعليمه ليخرج من ظلمات الجهل الذي هو أقبح من كل قبيح” حركة المدارس الحرة بالمغرب 1919-1970.
وكان مؤسسوها من السلفيين الذين اهتموا بتحرير العقلية المغربية أمثال الشيخ المكي الناصري ومحمد العربي الخطيب، ومولاي مصطفى العلوي، والفقيه غازي، وأبو بكر القادري، والفقيه محمد الركراكي، والفقيه داوود وآل بنونه، وقد كان لهذه المدارس الكلمة الفصل في الدفاع عن دين الإسلام والوطن والعرش، لما امتدت يد الاستعمار إليه بفضل إنتاجها ونجاح مشروعها وتمسكها بالثوابت.
وإذا كانت الحماية قد ضيقت الخناق على ذلك التعليم، فإن الأمة ساندته ماديا ومعنويا وكنموذج على ذلك: مشروع “الفرنك” الذي بمقتضاه طلب من العمال والتجار والفلاحين أن يقتصدوا فرنكا كل يوم لمساعدة تلامذة المدارس الابتدائية، ولجنة صندوق الطالب التي كانت تهتم بتوفير المنح للمتفوق من الطلبة وكان من المساهمين فيها الملك محمد الخامس رحمه الله الذي بعث أول بعثة إلى فرنسا على نفقته سنة 1947م.
نستخلص من هذا أن سداد التأويل وصواب التنزيل هيّأ للتوجيه الملكي المناخ الصالح للإصلاح في ذلك الزمان. فلا غرابة أن يلح جلالة الملك محمد السادس على تجنب الإقصاء وفتح الباب أمام المبادرة المكفولة بالقانون التي من شأنها أن تحرر الطاقات المكبوتة تحت وطأة الخوف والاحتكار لتحقيق الأهداف النبيلة لكل عملية إصلاحية في المجال الديني.
بيد أن المؤسف حقا أن يكون التأويل عكس التوجيه الملكي، الملك قال في خطاب 30/04/2004 “إحياء مؤسسة الأوقاف وعقلنة تسييرها لتضل وفيَّة لمقاصدها الشرعية والتضامنية الاجتماعية ومتنامية بإسهام المحسنين فيها”.
نجد الوزارة تفوت العقارات الحبسية إلى الأغيار دونما سند قانوني بدل أن تحيي المجلس الأعلى للأوقاف، وترفض تعويض المقابر الممتلئة بأراضي حبسية خصصت لذلك الغرض، طالبة من الناس أن يبحثوا عن مدافن لهم.
الملك يدعو إلى تشكيل مجالس علمية من علماء مشهود لهم بالإخلاص لثوابت الأمة ومقدساتها، فنرى الأوقاف تطرد كل من له رأي أو صيت حسن لأنه لم يلتزم بخطبة الوزارة أو صدرت منه تعاليق أو كتابات اعتبرتها الوزارة خطأ مهنيا.
الملك قال بلمِّ شمل العلماء حتى لا تكون المجالس العلمية جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء. الوزارة قالت بخلاف ذلك واعتبرت منتقديها من المرجفين.
الملك قال بإصلاح الرابطة وإعطائها اسمه لتكون جهازا متفاعلا مع المجالس العلمية، فقامت الوزارة بالاستيلاء عليها وتعيين واحد من كل مدينة وتجميد فروعها والاستيلاء على ممتلكاتها في سابقة خطيرة، وتحويلها من مؤسسة تنظم العلماء وتطور كفاءاتهم المعرفية وتهيؤهم للولوج إلى المجالس العلمية، إلى مجلس علمي رديف لا حول له ولا قوة.
الملك قال بأن المجلس العلمي يدبر الشأن الديني عن قرب والوزارة حولته إلى منفذ لأوامر المندوبية، بحيث أصبح رئيس المجلس العلمي موكل إلى نظر موظفي المندوبية يجيز ما أجازوا ويمنع ما منعوا.
وهذا ما جعلها مشلولة وأوقع المجلس العلمي الأعلى في الحرج الذي يعرفه الجميع.
من خلال هذه المقارنة البسيطة يتبين أن هناك شططا عميقا في فهم التوصيات الملكية ينجم عنه سوء تنزيل يؤديان إلى إخفاقات متتالية، وبالتالي إلى عزوف الناس عن المشروع الإصلاحي المراد تطبيقه، مما يجعل الوزارة في وضعية شاذة بالمقارنة مع قانونها التنظيمي وتواجدها المؤسسي ضمن حكومة مسؤولة أمام الملك.
يقول وزير الأوقاف: “أما أنا فلي رأي ليس داخل الحكومة، وإنما داخل المؤسسة التي هي وزارة الأوقاف التي تقوم بتنفيذ الاجتهادات السياسية لإمارة المؤمنين”، وقبل هذا أعلن في مجلس النواب عن انطلاق نفرة العلماء لتنويع ثقافة الأئمة وإخراجهم من شرنقة التقيد التام بالنص المقدس، ومن قبل جاء بالشيعي الأمريكي لتحديث دار الحديث بعدما حاز رضاه وثقته ليقول للعلماء -الذين رأى الوزير فيهم أن مناصب الدار صُنعت لتوظيفهم-: “إني أريد أن أحول الاستنتاجات حول الإسلام المنطلقة فقط من قراءة القرآن.. ومن كلام بعض المسيرين الإسلاميين.. أو ثقافة مجموعة من المؤمنين.. لأن الدين هو في كل حال يمكن أن تعمل به ما تشاء”.
والخلاصة
أن تدبير الشأن الديني ليس كما يظن البعض مجرد توجيهات ونصوص يختلف حول طرق تنفيذها بين موظفين، كما ذهبت إلى ذلك بعض الآراء الصحفية التي جعلت المشكلة محصورة بين الوزير ومدير دار الحديث والأمين العام للرابطة المحمدية، في حين أن الواقع ليس كذلك، وإنما هو شطط في التأويل باعثه صعوبة التلاؤم بين التوجيه الملكي الملتزم بالكتاب والسنة وما جرى به العمل وبين رغبة الوزارة في ملاءمة ذلك -حسب رأي الوزير- مع واقع الناس وحاجتهم لئلا يكون هناك انفصام في شخصيتهم وأن لا يشعروا بأنهم مدانون في هذا العالم.
وهو كلام لا يعدو أن يكون ضربا من التنظير يراعي فهوما تمتح من آراء تتحدث عن مجتمع افتراضي، أو تحاول التجاوب مع ما سمي تقريرا سريا رفع إلى الملك محمد السادس سنة 2000م، اقترح ثلاثة عشر تدبيرا تتلخص في مراجعة برامج التربية الإسلامية والتنصيص على لائحة محدودة لمواضيع الوعظ، وإعادة النظر في النظام الأساسي لخطباء الجمعة ومركزية تدبير المساجد، ومنع نشر الفتاوى في الصحف، وإصدار تشريعات رادعة لظاهرة الكراهية للأديان والأمم الأخرى (المستقل 4 ماي 2003م).
بل لا يتماشى مع التوجيهات الملكية التي أرادت إصلاح سوء تنزيل الوزارة عندما أقصت آلاف العلماء المنضوين تحت لواء الرابطة سنة 1960م حيث أمر جلالته بتوسيع انتشار المجالس العلمية وجعلها بعدد الأقاليم، وإبدال شعار النفرة التي برمج لها الوزير والذي يحيل إلى الحركة وإعلان الحرب إلى ميثاق العلماء الذي يحيل إلى التعاون والتحابب والتضايف والتآخي. ولست أدري كيف سولت للبعض أنفسهم أن يفرِّشوا لهذا الإصلاح الرباني الذي أمر به أمير المؤمنين بإغلاق دور القرآن في العشر الأواخر من شهر القرآن، وكأن هناك من يريد تكدير صفو تلك الأهداف النبيلة، والنيل من شعور الأمة بمثل هذا التأويل الخاطئ والتنزيل البئيس.
وعلى كل فالقرآن حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، وما حفظه الله لن تطاله النوايا السيئة مهما تظاهرت وتناصرت، لأن الله خير حفظا وهو القوي العزيز.