والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟!
حفلت مرويات الصحابة رضي الله عنهم وسيرهم بأنواع من الحوارات الهادفة والردود القوية تجاه المخالفين للسنة المتلبسين بالبدعة، ومن تلك المواقف موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعن عمرو بن سلمة الهمداني، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أَخَرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ قال: إن عشت ستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة، فيكبرون مئة، فيقول: هللوا مئة، فيهللون مئة، ويقول: سبحوا مئة، فيسبحون مئة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظاراً لرأيك، قال: أفلا تأمرهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟
ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلْقة من تلك الحِلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟
قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نَعُدّ به التكبير والتهليل والتسبيح.
قال: فعدوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتَكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟!
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا: أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأيم الله لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحِلق يطاعوننا يوم النهروان مع الخوارج (أخرجه الدارمي 1/79، والصحيحة للألباني ح: 2005).
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كبار الصحابة وساداتهم وفقهائهم ومُقدَّميهم في القرآن والفقه والفتوى، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد” . صحيح الجامع الصغير وزيادته.
فوائد عديدة ودروس مفيدة
تضمن هذا الأثر فوائد عديدة ودروساً مفيدة، فيها إجابات عن أسئلة يطرحها كثير ممن لا يميزون بين البدعة الإضافية التي لها أصل في الشرع لكن لحقها وصف البدعة من ناحية الجنس أو السبب أو القدر أو الكيفية أو المكان أو الزمان، وبين السنة التي يقتصر صاحبها على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأسئلة أن يقول لك المتلبس بالبدعة: وما الشر الذي يمكن أن يترتب عن قيام الإنسان بذكر الله جماعة مع إخوانه مستعينين بحصى يحسبون به عدد التسبيحات والتهليلات والتكبيرات؟ فيرد عليه بمثل ما أجاب به الصحابي الجليل رضوان الله عليه: “إنك لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتح باب ضلالة”.
والبدعة تبدأ أشبه ما تكون بالسنة لأن صاحبها يقصد من وراء إحداثها المبالغة في التعبد، لكن سرعان ما تصبح كبيرة عظيمة الخطر كما حصل مع أولئك القوم الذين نهاهم الصحابي الجليل عن مخالفة النبي صلى الله عليه في هيئة الذكر، حيث انتهى بهم الجهل بالسنة إلى تكفير المسلمين وقتال الصحابة.
ومما يستفاد من واقعة إنكار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من فوائد ودروس:
1-ضرورة الرجوع إلى فهم الصحابة رضي الله عنهم للنصوص الشرعية، والاستعانة بتفسير الصحابة للسنة النبوية.
فالصحابة رضي الله عنهم شهدوا تنزيل القرآن، وعرفوا خاصّه وعامّه، وهم أعلم الأمة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ومقاصده. انظر مجموع الفتاوى، 4/158، 7 390.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ومعلوم أن كل من سلك إلى الله عز وجل علماً وعملاً بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، فلا بد أن يقع في بدعة قولية أو عملية، فإن السائر إذا سار على غير الطريق المَهْيَع فلا بد أن يسلك بنيات الطريق” (شرح الأصفهانية، ص 129).
2- أن الإعراض عن فقه الصحابة لنصوص الوحيين من أسباب الزيغ والضلال، وهذا ما أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: “والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أَوَ مفتتحو باب ضلالة؟!”، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه، وصحت فراسته، فقد آل الأمر بهؤلاء: إلى أن سلكوا طريق الخوارج الضالين، قال تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً” الكهف.
3- أن البدع والانحرافات تبدأ شيئاً فشيئاً، فأول ما تكون شبراً ثم تصير ذراعاً، ثم تؤول إلى أميال وفراسخ، فبداية هؤلاء: الإعراض عن سنة التسبيح بالأنامل، والاشتغال بالذكر بطريقة مبتدعة.. إلى أن انتهى بهم الأمر إلى الخروج عن جماعة المسلمين وقتال أهل الإسلام.
وقد أشار الإمام مجاهد رحمه الله إلى تدرج البدع، وأنها طريق إلى الشرك، فقال: “يبدؤون جهمية، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوساً” أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، 3/645.
ويقول ابن تيمية في هذا المقام:
ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مُفَضّلاً، ثم يصير سبّاباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطّلا” مجموع الفتاوى، 4/428.
4- أن النية الحسنة وإرادة الخير لا تكفي وحدها، كما قال ابن مسعود: “وكم من مريد للخير لن يصيبه”، فيتعين الاتباع للسنة وموافقة الصواب، فليس العبرة بالإكثار من العبادة دون اتباع وسنة، ولذا قال ابن مسعود أيضاً: “اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة” أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، 1/55.
5-أن ثمة تلازم بين مخالفة الحق ووقوع العداوة والبغضاء، فإن الخوارج وكذا أهل الأهواء عموماً لما أعرضوا عن السنة وفقه الصحابة فهموا القرآن حسب أهوائهم، وقد أدى بهم ذلك إلى أن جعلوا القرآن عضين، فآمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعضه، مما أوجب العداوة والبغضاء فيما بينهم، وفي المقابل؛ فإنه لمّا آمن الصحابة ومن تبعهم بإحسان بجميع النصوص الشرعية: أورثهم ذلك اجتماعاً واتفاقاً؛ قال تعالى: (وَمِنَ الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا هِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) [المائدة: 14].
يقول ابن تيمية في بيان معنى هذه الآيـة: “فأخبر أن نسيانهم حظًّاً مما ذكروا به -وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به- كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه” مجموع الفتاوى، 1/14.