لقد خص الله أهل السنة وحملة منهج السلف ووراثي علمهم بحراسة الدين وحماية العقيدة فقال صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” أخرجه البيهقي في السنن والخطيب في شرف أصحاب الحديث.
فعلماء أهل السنة رَحْمَةٌ رَحِمَ الله بها هذه الأمة، كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: “الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن المضلين” الرد على الزنادقة والجهمية ص6.
قال ابن القيم رحمه الله: “وبهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها -أي: للبدع- وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك بما لم يبالغوا في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشدُّ” مدارج السالكين 1/372.
وقالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلت لِأَبِي عبد الله -يعني الإمام أحمد- ترى للرَّجل أن يشتَغِل بالصوم والصّلاة، وَيَسْكُتَ عَنْ الْكَلامِ فِي أَهْلِ الْبِدَع؟ فَكَلَحَ فِي وَجْهِه, وَقَالَ إذَا هُوَ صَامَ وَصَلَّى وَاعْتَزَلَ النَّاسَ أَلَيْسَ إنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ؟ قُلْت: بَلَى قَالَ: فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلُ” الآداب الشرعية لابن مفلح 1/278.
فمقصود أهل السنة بالرد على المخالف ليس هو الشماتة، والتفكه بانتهاك الأعراض، ولا افتعال الخصومات وإنما قصدهم هو حفظ الدين من كل دخيل، والنصح للمسلمين، فهم -أي: أهل السنة- خير للمسلمين، بل هم خير للمخالفين للسنة أنفسهم، وإن اشتدوا عليهم أحيانا، فقد ذكر الذهبي رحمه الله في السير عن أبي صالح الفراء قال: حكيتُ ليوسف بن أسباط عن وكيعٍ شيئاً من أمر الفتن، فقال: ذلك أُستاذه -يعني الحسن بن صالح- فقلتُ ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غِيبةً؟ فقال لي: لِمَ يا أحمق!؟ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضرَّ عليهم( )؛ ولذلك قال شيخ الإسلام عن أهل السنة: “هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق” منهاج السنة 5/158.
ولقد ظهر في الأمة أناس لا همَّ لهم إلا توهين القائمين بهذا الفرض من أتباع منهج السلف، قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله: “والذين يَلْوُون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل وإن كان في بعضهم صلاح وخير، لكنّه الوهن وضعف العزائم حينا، وضعف إدراك مدارك الحق ومناهج الصّواب أحيانا، بل في حقيقته من (التّولي يوم الزحف) عن (مواقع الحراسة) لدين الله والذّب عنه، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالنّاطق بالباطل في (الإثم).
قال أبو علي الدّقاق: (الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق). والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- يخبر بافتراق هذه الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، والنّجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النّبوّة، أيريد هؤلاء اختصار الأمّة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التّمايز العقديّ المضطرب؟!
أم أنها (دعوة إلى وحدة تصدِّع كلمة التّوحيد)، فاحذروا.
وما حجّتهم إلا المقولات الباطلة:
لا تُصدِّعوا الصفّ من الدّاخل.
لا تثيروا الغبار من الخارج.
لا تحرّكوا الخلاف بين المسلمين.
(نلتقي فيما اتّفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه)، وهكذا.( )
ولقد ذكر الله لنا على سبيل التحذير صفة لليهود كانت سببا في استحقاقهم لعنة وغضبه ومقته هي تركهم للتناهي عن المنكر قال الله تعالى: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ.كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ” المائدة.
وأكبر المنكر هو الإحداث في الدين وتحريف شريعة رب العالمين، طاعته فيما أمر، تصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.