النموذج الثاني: علم المنطق
علم المنطق عرفه المسلمون من يوم عرفوا علم الكلام، لأنه آلة علم الكلام وقانونه، وقد ألف فيه علماء المسلمين مؤلفات متنوعة وأقروا دراسته في المعاهد العلمية واستحسنوه وانخدعوا بمقدماته وأشكاله وحدوده وجزم الغزالي في مقدمة كتابه المستصفى بأنه قانون العلوم كلها وأن من لم يعرف المنطق لا ثقة بعلومه، لذلك أقبل علماء الخلف على دراسته والاستعانة بمقدماته على دراسة العقائد وأصول الفقه، حتى ظن عامة أهل العلم أنه علم أصيل في الإسلام، والإسلام منه بريء!
وللتأكد من كونه دخيلا على الإسلام أشير إلى الصراع الذي دار بين علماء السلف وعلماء الخلف في شأنه، ومن علماء السلف الذين حرموا دراسته؛ ابن الصلاح والنووي، وفي ذلك يقول الأخضري في منظومته السلم:
فابن الصلاح والنووي حرما ** وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة ** جوازه لكامل القريحة
ومن علماء السلف الذين يكرهون دراسته والاشتغال به؛ السيوطي وفي ذلك يقول:
قالوا تعلم منطقا تسمو به ** وبه إلى أعلى المراتب ترتقي
فأجبتهم ما لي بذلك حيلة ** إن البلاء موكل بالمنطق
ومن علماء بقية السلف الذين يحذرون من تعلم المنطق الشيخ المأمون بن محمد الصوفي الموريتاني وفي ذلك يقول مستنكرا ما ذهب إليه شيخه المختار ولد بونا من وجوب تعلم المنطق:
ما الدين إلا الذي تسعى لتوهنه ** آي البنى وآثار الهدى العتق
لا كل خبط عن اليونان مبتدع ** قد سن بين أصول الدين مختلق
تحمي قواعد رسطتاليس تحسبها ** دينا لك الويل نبهناك فاستفق
إن قلت ساغت لمن تمت قريحته ** أو أن تخلص لنا من مسلم تلق.
ومن علماء الخلف الذين استحسنوا تعلم علم المنطق الشيخ المختار ولد بونا الموريتاني وفي ذلك يقول:
قلت أرى الأقوال ذي المخالفة ** محلها ما صنف الفلاسفة
أما الذي صنفه من أسلما ** لا بد أن يعرف عند العلماء
لأنه يصحح العقائدا ** ويدرك الذهن به الفوائدا
ومن أعجب ما أضافه الشيخ المختار في هذه الأبيات زعمه بأن الأقوال التي حرمت دراسة المنطق إنما تعني المنطق الذي صنفه الفلاسفة الأقدمون لا المنطق الذي صنفه المسلمون، ومعنى ذلك في نظره أن المنطق نوعان نوع معروف لليونان ونوع معروف للمسلمين، وهذا لم يقل به أحد!
انظر كيف يلتمس علماء الخلف مبررات لما حرمه علماء السلف ولو كانت مجرد تخيل؟! ومتى كان المنطق منطقين؟ ومتى كان المنطق يصحح العقائد ويدرك به الذهن الفوائد؟!
ومن علماء السلف الذين أبطلوا المنطق ونقضوا حدوده وأشكاله الشيخ ابن تيمية في كتابه “الرد على المناطقة”، والفرق بين ابن تيمية ومن قبله من علماء السلف هو أن من قبله يحرم المنطق بالفتاوى الشرعية المبنية على ضرره بعقائد المسلمين، وابن تيمية نقضه وأثبت تهافته بناء على قواعد المنطق نفسها، وبذلك سبق ابن تيمية علماء الغرب إلى نقض المنطق الصوري اليوناني بأربعمائة سنة، ومع هذا وذاك ما زالت مناهج المسلمين تتبنى دراسة المنطق وتعتقد أنه من صميم الإسلام أو مكمل للإسلام، وهل هناك غزو فكري أشد أثرا من المنطق المذكور؟!