من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة الأولى) مقدمة في حكم الربا وخطره ياسين رخصي

نتحدث في هذه الحلقات عن النوع الثالث من أنواع البيوع المحرمة، وهي: البيوع المحرمة بسبب الربا، وقد تكلمنا فيما مضى عن نوعين من البيوع المحرمة، أحدهما: البيوع المحرمة بسبب حرمة عين المبيع، والثاني: البيوع المحرمة بسبب الغرر. وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عن ثلاثة أنواع أخرى بعد الفراغ من أبواب الربا.

والحديث عن الربا من أخطر المواضيع وأهمها، ذلك أنه ذنب عظيم أجمعت الشرائع على تحريمه، وجاءت نصوص الوحيين تترى في التحذير والتنفير منه، وبيان الوعيد الشديد لمن تعاطاه وتعامل به، لكن رغم كل ما ورد من تلكم الزواجر القرآنية، والتحذيرات النبوية، فإنك ترى كثيرا من الناس قد تساهلوا في شأن هذا الذنب العظيم والحوب الكبير، حتى صار التعامل بالربا عندهم شيئا مألوفا وأمرا معروفا، وغدا إنكاره منكرا مردودا، أعني بذلك ما شاع بين الناس وعمت به البلوى من القروض الربوية لأجل تحصيل شقة، أو سيارة، أو بعض التجهيزات المنزلية، أو قضاء عطلة صيفية أو غير ذلك من الأغراض.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؟ أمِنْ حلال أم من حرام”(1).
ذكر بعض ما ورد في القرآن والسنة من الوعيد الشديد في هذا الباب:
أما القرآن: فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).
وقوله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال ابن كثير: “أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان به، وذلك أنه يقوم قياما منكراً”(3).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}(4).
قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: “اعلموا بحرب من الله ورسوله، واحملوا سلاحكم ولا ينفعكم سلاح فإنكم المهزومون الهالكون”(5).
وأما السنة: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”(6).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، هم فيه سواء”(7).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله”(8).
وعن عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية”(9).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الربا سبعون حوبا (أي إثما) أيسرها: أن ينكح الرجل أمه”(10).
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة”(11).
وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: “الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُل”(12).
قال المناوي: “بالضم (قُل وقِلَّة كذُل وذِلَّة) أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلا تؤول إلى نقص ومحق آجلا، بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك، فهو مما يكون هباء منثوراً (يمحق الله الربا)”(13).
وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أخرجه البخاري في كتاب البيوع من حديث أبي هريرة (2083).
(2)- سورة البقرة: 277-275.
(3)- تفسير ابن كثير 2/379.
(4)- سورة البقرة: 279-278.
(5)- أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 1/271.
(6)- رواه البخاري ومسلم.
(7)- رواه مسلم.
(8) و(9) و(10) و(11) و(12)- أنظر هذه الأحاديث في “السراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير” للشيخ الألباني رتبه عصام موسى هادي (1/418-417).
(13)- فيض القدير 4/66.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *