صدر في يونيو عام 1963م كتابا بعنوان “الموت في الفكر الغربي” لمؤلفه “جاك شورون”، والكتاب عبارة عن: مسح شامل لآراء الفلاسفة الغربيين عن موضوع الموت، وقد بذل المؤلف جهداً كبيرا في تتبع أراء الفلاسفة حول الموضوع منذ بداية التفكير الفلسفي في بلاد اليونان.. حتى الفلاسفة المعاصرين.. لا سيما الفلسفة الوجودية التي اهتمت به اهتماماً كبيراً.
ثم عرض المؤلف في كتابه ستة وعشرين فصلاً تحتوي على آراء الفلاسفة الغربيين في موضوع الموت.
ومن العرض الذي قدمه يتبين أن دراسة الموت في الفكر الفلسفي عموماً دراسة نادرة.. تصديقا ً لقول “اسبينوزا”: “إن آخر ما يفكر فيه الرجل الرحل.. هو الموت.. لأن حكمته ليست تأملا للموت.. بل تأملاً للحياة”!
كان هروب الفلاسفة من دراسة الموت، وفرارهم من مواجهة هذا الموضوع الهام، كما يقول “بوسويه”: “خوف الناس من الموت: هو الذي حدا بهم إلى تجاهل التفكير في الموت، والعمل على تناسيه”.
شغل موضوع الموت أذهان البشرية كلها، وجذب من الجميع اهتمامهم به والتفاتهم له، وقد هرب الكثيرون من محاولة دراسته وفهمه، وقد حاول ذلك القليلون ومن هؤلاء الذين حاولوا: من ضل الطريق، وأساء الفهم! ومنهم كذلك: من أبصر الطريق وأجاد الفهم.. فترتب على ذلك:
أن انحرفت الكثرة التي هربت من دراسته عن سواء السبيل، وابتعدت عن الصراط المستقيم.
كما انحرف كذلك: الذين حاولوا دراسته فضلوا الطريق، وأساؤوا الفهم، لكن بفضل الله تعالى لم ينحرف من حاول ودرس، فأبصر الطريق، وأحسن الفهم.
فهم الملاحدة للموت
ذهب بعضهم إلى أن الموت يعنى انتهاء مسار رحلة الحياة، وخاتمة مطاف العبد.. فلا رحلة بعده، ولا حياة تليه، ولا بعث منه.. وبعبارة واحدة الموت عندهم يعني: الفناء والعدم المحض.
وقد أخبر القرآن الكريم عن موقف هذا الفريق، وحكى مقولتهم بقول الله تعالى عنهم: “وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ”.
وقال تعالى للمصطفى صلى الله عليه وسلم: “وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ”.
وهذا الفريق من البشر: ينكر – بناء على ذلك- كل ألوان الثواب والعقاب.. البرزخي والأخروي، ويحيا لاهياً.. بل “يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ”. وينكر- ما بعد الموت – جاهلا معانداً.
وغالبية هؤلاء لم يهتموا بدراسة الموت.. بل خافوا منه، وفروا من ذكره فرارهم من الأسد.
يبدو أن خوفهم منه، وعدم فهمهم له هو الذي حدا بهم إلى تجاهل التفكير فيه.. بل إلى العمل على تناسيه ويمثل هذا الفريق: الملاحدة قديما وحديثاً، والصدويقون.. وهم فرقة من اليهود (نسبة إلى “صادوق” الكاهن الأعظم في عهد سليمان عليه السلام وهم ينكرون البعث، والحياة الأخرى والحساب، يرون أن جزاء الإنسان يتم في الدنيا، انظر الموت في الفكر الغربي).
كما أن الإيمان بالبعث بعد الموت هو إقرار بما جاء في الكتب السماوية من عقاب وحساب مما يضطر الملحدين إلى الاعتراف بوجود الإله سبحانه وهذا ما يعمل الفلاسفة خصوصا المعاصرين جاهدين على إنكاره، محاولة منهم تغييب الدين عن كل مجالات الحياة، وهذا ما يفسر قيام العلمانيين بدعوة محمومة إلى بعث ما اندثر من الأفكار الفلسفية وتدريسها للطلاب في المدارس والجامعات.
فهم معظم فلاسفة الغرب للموت
وذهب فريق آخر إلى أن الموت لا يعنى انتهاء الرحلة، وخاتمة المطاف، وأن بعد الموت بعثاً، ولكن بالرغم من هذه المعرفة فإنهم يختلفون حول هذا البعث.. هل هو للنفس أو للجسد..؟
ثم ما كيفية هذا الفريق من الفلاسفة الغربيين المعاصرين، وأتباع الأديان السابقة التي حيل بتحريفها بين أتباعها وبين معرفة الصواب في هذه القضايا الجوهرية!
لقد ساهمت الكنيسة في الهروب من دراسة هذا البعث واليوم الآخر إلى درجة كبيرة.. إذ أصبح العالم الآخر من خلال جهود الكنيسة كما يقول الراهب “نوتكر بالبولوس” من سانت جالين: “مصدر للإرهاب.. لا للعزاء، فلضمان وجود سعيد في العالم الآخر، ولتجنب التعرض بصورة أبدية لعذاب لا يمكن تخيله، كان من الضروري أن يحيا المرء في هذا العالم حياة تتجاوز طاقة معظم الناس.. اللهم إلا قلة من الزهاد الورعين. (أنظر الموت في الفكر الغربي)
فهم المسلمين للموت
ذهب جماهير المسلمين.. عامتهم، وعلماؤهم إلى أن الموت:
انتقال من عالم من عوالم الله سبحانه وتعالى إلى عالم آخر من عوالمه سبحانه وتعالى أيضا.
انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، انتظاراً فيها للوصول إلى الدار الآخرة.
انتقال من دار الفناء إلى دار البقاء.
انتقال من دار الزرع إلى دار الحصاد.
انتقال من دار التكليف والعمل الدنيوي إلى دار الثواب والعقاب الأخروي، “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ”.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “جعل سبحانه وتعالى الدور ثلاثاً: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، وجعل لكل أحكاماً تختص بها”. (الروح لابن القيم).
من هنا: فالموت ينقل العبد من دار الدنيا إلى دار البرزخ كما أخبر الحق وهو أصدق المخبرين في قوله تعالى: “حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ”.
أي: مهلة يمكثون بها حتى ينتقلوا إلى الدار الآخرة (انظر جامع البيان لابن جرير الطبري (18/ 52)، وهذه المهلة التي يمكث بها الإنسان حتى يوم البعث هي: الحياة البرزخية.
ومعظم علماء الإسلام اعتنوا بفضل الله تعالى بموضوع الموت، واهتموا بدارسته، وجدُّوا في الاستعداد له، والعمل لما بعده.
بعد هذا العرض السريع يتضح أن لموضوع الموت في شرعنا الحنيف صورة واضحة واعية بخلاف الصورة الباهتة الغامضة له عند فلاسفة الشرق والغرب، القدماء منهم والمعاصرين.
فغموض صورة الموت لدى فلاسفة الغرب بناء على قصور العقل الغربي وبناء على ما تم من تحريف للأديان قبل الإسلام.. بل بناء على نفور هؤلاء الفلاسفة من اضطهاد الكنيسة بتفسيراتها الخاطئة للموت وما بعده، أدى هذا الغموض إلى الهروب من دراسة الموت، والدعوة إلى أن تعاش الحياة بكامل امتلائها رغم الموت. (أنظر الموت في الفكر الغربي).
إن وضوح صورة الموت لدينا معشر المسلمين، هي نتيجة لوضوح نصوص الوحي الإلهي لدينا، وعدم تحريفها لحفظ الله تعالى لها من ذلك، الأمر الذي أدى إلى فهم جيد لهذا الموضوع، والإيمان الواثق به وبالبعث بعده، والاستعداد قدر الطاقة لهذا اليوم وما بعده.