إن القارئ لكتب ومقلات محمد عابد الجابري يجب أن يقرأها وهو مستحضر لمرجعيته وفكره، مستصحبا لأقواله وتصريحاته التي تجلي بكل وضوح خطته ووجهة نظره في التغيير التي أفصح عنها في كتابه التراث والحداثة (ص:259) بقوله: “لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يحتمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقدٍ لاهوتي.. لأنه لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة، ولا درجة النضوجِ الثقافي لدى المثقفين أنفسهم تسمح بهذا النوعِ من الممارسة الفولتيرية، ولا السياسة تسمح. وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه، حتى يستطيع تغييره”.
وانتقد: “من يرى أن من الواجبِ مهاجمة اللاعقلانية في عقر دارها”، واعتبر هذا خطأ، “لأن مهاجمة الفكر اللاعقلاني في مسلماته؛ في فروضه؛ في عقر داره، يسفر في غالب الأحيان عن: إيقاظٍ، تنبيهٍ، رد فعلٍ، وبالتالي تعميم الحوار بين العقل واللاعقل، والسيادة في النهاية ستكون خاضعةً للاعقل، لأن الأرضية أرضيته، والميدان ميدانه، والمسألة مسألة تخطيط”.
والرجل ليس كغيره من العلمانيين ودعاة الحداثة، فهو بارع وله مهارة خاصة في التمويه والخداع والتلبيس.. لذا فهو لا يستعمل أبدا مصطلح العلمانية في كتبه وأبحاثه، بل يرفض استعمال هذا المصطلح، في حين يناضل بكل قوته من أجل تثبيت مفهومه وحمولته في الفكر المغربي وما يستتبع هذا التثبيت من محاربة للدين والتدين بمفهومهما الأصيل، وإحلال دين وتدين يتماشى مع مفهوم العلمانية، التي يستعيض عن مصطلحها بمصطلحات من قبيل العقلانية والديمقراطية.. لأن المجتمع عنده لم يستكمل عملية التهيئة اللازمة لقبول مثل هذا النوع من المصطلحات، وقد أقرَّ هو نفسه كما سبق أنه يمارس نوعاً مما أسماه بعض الباحثين (نفاقاً علمياً)، حين أشارَ إلى أنه لا يصرح بفكرته مراعاة لطبيعة العقل العربي الذي لا يتقبل النقد اللاهوتي حين تمسُّ المسلمات.
وقد صدر مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية كتابٌ جديد للجابري بعنوان “فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول”، وهو جزء ثان -في قسمين- صدر بعد الجزء الأول: “مدخل إلى القرآن الكريم” والذي خصصه -حسب قوله- للتعريف بالقرآن الكريم.
وقد تضمن الجزء الأول فصلاً بعنوان “جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان”، جاء في (ص:232) منه: “ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمع زمن عثمان -أي القرآن- أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ..” اهـ.
وفي (ص:231) قال -وهو يتحدث عن احتمال وقوع النقص في سورتي براءة والأحزاب-: “لقد اشتملت السورتان على نقدٍ داخليٍّ ومراجعة وحساب وكشف عورات -وخاصة سورة براءة-، لم يرد مثله في أية سورة أخرى. ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات -إذا كان هناك سقوط بالفعل-، يتعلق بهذا الموضوع، لأن ما احتفظت به السورتان كان عنيفاً وقاسياً إلى درجة يصعب معها -بالنظر إلى أسلوب القرآن في العتاب- تصور ما هو أبعد من ذلك”..
وقال: “وكل ما يمكن قوله -على سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة هو القسم الأول منها، وربما كان يتعلق بذكر المعاهدات التي كانت قد أبرمت مع المشركين. ذلك أن سور القرآن، بخاصة الطوال منها، تحتوي عادة على مقدمات تختلف طولاً وقصراً مع استطرادات، قبل الانتقال إلى الموضوع أو الموضوعات التي تشكل قوام السورة”.
ثم قال: “أما سورة الأحزاب، فيبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه..”
هذا هو أسلوب الجابري، أسلوب التشكيك في قالب “البحث العلمي” والعبارات الموهمة، (يبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه، ما يمكن قوله على سبيل التخمين لا غير، هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة.. وهكذا).
وقد رتب جزأه الثاني (فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) على ما أسماه ترتيب النزول، وههنا أمر يجب التفطن له وهو:
إن كان العلماء قد اختلفوا في ترتيب السور على ثلاثة أقوال معروفة لا يكاد يخلو منها كتاب في علوم القرآن، وهي:
القول الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه.
القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة.
وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء ولعله أمثل الآراء -كما قال صاحب مناهل العرفان-.
قال السيوطي ما نصه: “الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز” اهـ.
وقال الزرقاني رحمه الله في مناهل العرفان: والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا.
إلا أنه سواء كان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف، لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
إن النتيجة التي خرج بها الجابري في جزئه الثاني “من مصاحبة هذه التفاسير مدة من الزمن، مستعينا بالحاسوب وما يرتبط به من مكونات ووسائل تمكن مستعملها من الجولة في الكتب بسهولة، مهما كبر حجمها وتعددت مجلداتها.. هي أن المكتبة العربية الإسلامية تفتقد إلى تفسير يستفيد من عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة ويعتمد ترتيب النزول”.
وأضاف: “يمكن القول دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري”.
فعلا لأول مرة تمكنا فيها من رؤية مزيج من كتب تفسير أهل السنة وأهل الكلام والبدع، مزيجا وخليطا استحال تجانسه بين دعوة الحق ودعوة الباطل.
فمن تلبيساته في هذا القسم حشره -بعد ذكر مرويات حول الجن لها علاقة بالقرآن- أحاديث صحيحة بعضها في صحيح مسلم وبعضها في السنن في “جنس الإسرائيليات التي غصَّت بها كتب المفسرين”، وخلوصه بعد نقله كلاما طويلا للرازي في الموضوع إلى رأي المعتزلة الذين وصفهم -كعادة كافة العلمانيين- بـأنهم “ذووا الاتجاه العقلاني في فهم الدين الإسلامي”، إلى “أن الجن كالملائكة أجسام لطيفة وحية أي عضويات (Organismes) دقيقة جدا فيها حياة فهي أشبه بالكائنات الروحية ولكنها لا تستطيع القيام بأفعال شاقة، أما الأشاعرة فيتصورونها جواهر فردة، أي أجزاء لا تتجزأ (Substances Indivisibles) حاملة للأعراض كالحياة والحركة..إلخ، يخلق فيها الله القدرة على فعل الشاق وغير الشاق. اهـ.
فالرجل له أصل عرف به في جل كتبه، ظل وفيا له في مؤلفه الأخير أيضا، وهو سوقه ما يسعفه من روايات الفرق الضالة المنتسبة للإسلام، كالرافضة والمعتزلة والجهمية..، في سياق واحد مع دعوة أهل الحق -أهل السنة والجماعة-، من غير بيان أو إيضاح، ليَلبِس بذلك الحق بالباطل، وهو عين ما صرح به في كتابه التراث والحداثة (ص:260) بقوله: “يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء، يعني نستطيع بشكل أو بآخرَ استغلال الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعضٍ، ونوظِّفَ هذا الحوار، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور، المسألة مسألة تطور”.
لقد وصف الدكتور يوسف نور عوض كتاب الجابري بأنه نوع من الكتب التي يوهم القارئ بأنه يتحدث في أمور خطيرة ويتناولها بطريق علمية وموضوعية، ولكن المتأمل فيه يدرك أن الكتاب فارغ المضمون، وأنه مليء بالمغالطات والآراء غير العلمية بعكس الدعاية الكبيرة له.
وأن أمثاله -أصحاب اتجاه النقل المقصود به الهدم- يزعمون أنهم يناقشون قضايا المجتمع العربي الإسلامي من منظور علمي مع أنهم في الحقيقة يحاولون عمداً هدم الإسلام من الداخل، ذلك أن معظم الكتاب العرب الذين بدأوا يستخدمون هذا المنهج، لم يحاولوا في الواقع نقد المنهج ذاته بل استخدموه بأقصى درجات التطرف من أجل تفتيت كيان الأمة الثقافي. تارة تحت اسم (سوسيولوجيا المعرفة) وأخرى تحت اسم (سوسيولوجيا النقد).
وفي انتظار القسم الثالث الذي سيتناول فيه الجابري “تفسير” السور المدنية والتي لا مناص له فيها من الحديث عن جانب التشريع والحكم والسياسة وغيرها من الأمور، لا يحق لنا أبدا أن نلدغ من جحر مرارا متعددة، وأن نسمح لأي كان أن يشككنا في ديننا، أو يزعزع عقيدتنا في القرآن، ويخلط علينا الأمور ويلبسلها علينا.