لا بد من دين يحكم البشر ويجعلهم يحسون بالمسؤولية تجاه ما يعملون، ويعطيهم الدافع للالتزام بالأخلاق والأنظمة، وهذا الدين هو الإسلام. كيف ذلك؟
إن الإنسان مركب من عناصر ومواد نعرف الكثير منها ونعرف خصائصها، ونعرف كيف يؤثر فيه الحر والبرد والمرض والجوع والعطش، لكن ما لا نعرفه كثيرا عن هذا المخلوق هو ما فيه من تركيب روحي وأمزجة نفسية، ما زال العلم إلى الآن يتلمس خيوطها، ويكتشف أسرارها…
ومن أهم هذه الخصائص النفسية التي نعرفها أن النفس لا تقدم على عمل إلا إذا ضمنت المكسب من ورائه بقدر ما ستبذله أو أكثر، فإن كان المكسب أقل من المبذول قل الدافع أو تلاشى، أما إذا لم يكن هناك مقابل تكسبه النفس، فإنها لا تتحرك إلى العمل أصلا.
إلا أن هذا العوض المكتسب، يختلف من حالة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر، ففي كثير من الأحيان يكون الثناء والذكر الحسن من أهم المكتسبات التي قد ينفق عليها الإنسان ماله، ويخاطر من أجلها بحياته…
فقد يلقي إنسان بنفسه إلى التهلكة ليقال عنه شجاع، وقد ينفق ماله كله لينال منصبا أو جاها… وقد كان أبو طالب غارقا في ديون تراكمت عليه بسبب حرصه على شرف إطعام الحجيج إذ كان مفخرة عظيمة في منظومته الاجتماعية.
وقد يحصل أن تجد أناسا يحسنون إلى الضعفاء أو إلى الحيوانات، وهم لا يؤمنون ببعث ولا نشور، أي أنهم لا ينتظرون جزاء على أعمالهم، لكنك إن بحثت في دواخلهم وجدت هناك عوضا نفسيا ينالونه، إما بالذكر والثناء، وإما رغبة في التكفير عن أخطاء سلفت أو جرائم اقترفت، وإن شذ عن هذه القاعدة أحد، بأن وجدته يعمل العمل لا يرجو منه ثناء ولا أجرا ولا مالا، فإن لكل قاعدة شواذا.
وإذا أردنا استدلالا أكثر على هذه الجزئية، فيكفي أن ننظر في أساس الشرائع، لنجدها تربط الأعمال بالثواب، بحيث يجازى المحسنون بالجنان، وتوصف لهم هذه الجنان حتى يدركوها بحواسهم ليستحضروا الثواب أثناء العمل، فتساق نفوسهم بالترغيب، وتدفع بالترهيب، حتى يحصل لهم الرضا بأن ما يبذلونه من طاعة وجهد في العبادة له مقابل وأجر وثواب.
وهنا يقوم العقل بعمله، فإن كان يعرف البعث والنشور، ويؤمن بالشريعة، حاور النفس وأقنعها بأن العمل الصالح هو الذي سيجني لها الربح الوفير في هذه الدار وفي دار القرار، والقلب يبعث العقل على هذا التفكير والتدبر، ويزوده بمادة الإيمان، فيتعاونان على النفس حتى ترتدع وتلتزم بالشريعة.
أما إذا لم يكن للعقل هذه المقاييس، ولم يزوده القلب بمادة الإيمان، فإنه لا يرى فائدة من الالتزام بالحلال والحرام وتجنب الخبائث، بل يرى أن الفائدة في إتيانها واغتنام الفرص أينما كانت، بحيث تكون الحياة الدنيا هي مجاله الوحيد، فلا يجد الرضا في العمل إلا إذا حصل منه فائدة مادية ملموسة، وعندئذ تصبح المبادئ والقيم والأخلاق والشرائع، عوائق أمام الربح، وحواجز أمام السعادة، وخرافات تعيق عن التقدم، فتمتطي النفس حصان المصلحة الشخصية، وتجري به في سباق محموم لا تميز فيه بين معروف ومنكر، ويصبح العاقل هنا هو من يجني الكثير من المال، بغض النظر عن مصدر هذا المال ولا عن طريقة جمعه، ويصبح الأحمق هو من يستسلم لقيود الشريعة وينتظم بنظامها.
والإنسان فيه من الظلم والجهل ما يجعله يطمع في حقوق غيره، ويتطاول على ما في حوزتهم، ما لم يردعه رادع من دين أو عقل، أما إذا انتفى هذا الرادع وأمن الناس العقاب فإنهم يعيشون في فوضى عارمة، ويسودهم الظلم والطغيان، ولا يمكن لرادع السلطان وحده أن يقوم بهذا الدور ما لم يؤازره السلوك وتسانده القيم والمبادئ.
لابد إذن من دين يحكم البشر ويجعلهم يحسون بالمسؤولية تجاه ما يعملون ويعطيهم الدافع للالتزام بالأخلاق والأنظمة، لكن لماذا الإسلام وليس غيره من الأديان؟
قد نقول إن الإسلام هو الدين الصحيح الباقي على أصوله التي جاء عليها أما غيره من الأديان فقد دخلها الفساد واعتراها التغيير، وهذه مسلمة عندنا نحن المسلمين، لكن حديثي هنا للمسلم ولغير المسلم، لذا أقول:
إن الإسلام هو الدين الوحيد الباقي على أصل العلاقة الدينية البحتة التي تربط العبد مباشرة بخالقه، أما الأديان الأخرى فهي تربط الشخص بوسائط، من هذه الجزئية كانت غير صالحة في المنظومة الاجتماعية التي أتحدث عنها، وذلك أن القلب إذا تعلق بغير الله من الوسائط، شغلت منه حيزا كبيرا، بل قد يضعف ارتباطه بالله إلى حد كبير، ويطغى ارتباطه بالواسطة، وهذا ما وصلت إليه الكنيسة المسيحية التي باعت صكوك الغفران في وقت من الأوقات، حين أصبح لدى البابا مكانة كبيرة في القلوب، وهذا دليل على أن الإنسان قد يصل في ارتباطه بالمخلوق إلى حد أن يطلب الثواب منه، ويخشاه هو بدل أن يخشى الله عز وجل.
فالفرق الجوهري بين من يراقب الله ومن يراقب الناس أن هذا الأخير يستطيع الاستخفاء عن عيون من يخافهم من الوسائط، بينما الذي يراقب الله عز وجل لا يستطيع أن يستخفي أو يخادع.
إن الإسلام يربي المسلم على أن الذي يخافه ويخشاه هو الله عز وجل وحده، وهو لا يغيب ولا ينام، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، بينما يضعف حس المراقبة الذاتية عند من لا يتشرب هذا المعنى، ولا يتربى على هذه العقيدة.
ولو نظرنا مثلا إلى عقيدة صلب المسيح عند النصارى، لوجدناها تضعف معنى الرقابة والمسؤولية في نفس الشخص، إذ أنها تعني أن المسيح قد ضحى بنفسه من أجل خطايا بني آدم، وهو يتحملها عنهم يوم القيامة، وكل من أحب المسيح واعترف بذنوبه فهو مغفور له بتضحية المسيح، بينما نجد أن الإسلام لا يعفي المخطئ من مسؤوليته تجاه ذنبه، بل يجب عليه التوبة والندم والعزم على عدم العودة، كما يجب عليه أن يرد الحقوق إلى أصحابها كي تصح توبته، فليس لدينا في الإسلام من يتحمل عنك وزرك أو يضحي من أجل خطاياك، قال تعالى : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ثم قال سبحانه: (وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب غيرها إلى أن تحمل عنها شيئا من وزرها فإنها لا تحمل عنها شيئا، ولو كان بينهما قرابة.
وجهة أخرى تميز الإسلام وتجعله الدين الوحيد القادر على حل مشاكل العالم، أنه دين شامل لجميع مناحي الحياة، فهو دين الاقتصاد ودين السياسة ودين الاجتماع ودين الحريات المنضبطة إلى غير ذلك من نواحي الحياة الاجتماعية، بينما نجد الديانات الأخرى قد فصلت نفسها عن الدولة، وأثبتت فشلها في التعاطي مع قضايا العصر، وهذه جزئية أخرى ضرورية في انتظام العلائق بين الناس، وهي ارتباط المعاملات بالشريعة، فتكون الأنظمة المطبقة في التعامل هي أنظمة الشريعة، بحيث تكون رقابة الشريعة هي التي تدير أمور الناس وتنظم تعاملاتهم، فإذا انضاف إليها رقابة السلطان، كان الأمر أقرب إلى الصلاح والاستقامة، وكان المجتمع في طريق رشد منضبطة، لا يظلم فيها الناس بعضهم بعضا.
وإنما يعم الظلم بضعف أحد هذين العنصرين، أو فصل أحدهما عن الآخر، فمتى ما انفصل النظام عن الشريعة أصبح الناس مراقبين من النظام وحده، وهو غير قادر على مراقبة دواخلهم والاطلاع على تحايلاتهم.
ينضاف إلى هذا أن نظام الإسلام أثبت جدارته وقوته على حل كل ما يعانيه الناس من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، فعلى سبيل المثال، نجد أن نظام الاقتصاد في الإسلام هو خير نظام اقتصادي عرفته البشرية كما نعرفه من عقيدتنا ويعرفونه من دراساتهم الحديثة، وقس على ذلك النظام الاجتماعي والسياسي…
لذا فإن حلول مشاكل العالم تكمن في استخدام هذا النظام الذي لا يأتيه الباطل، لكن: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) وصدق الله : (إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).