على ضفاف الروح لطيفة أسير

 

بوح!!

قد تنفرطُ حبَّاتُ عمرِك سُدًى وأنت تُؤمِّل أن تحيا حياة إنسانية تليق بها إنسانيتُك، وتشمَخ بها كرامتُك، وترتوي بها سنواتُ الجدْب التي ظمئْتَ فيها؛ حياة شيَّدتَ لَبِناتِها بكل ما أُوتيتَ من صدقٍ وإيمان ووفاء، تنشر الحبَّ والسِّلم، وتنثر عِطرَ الكلام في وجه كل الأنام.

وقد تنكسر أحلامُك وأنت تلمحها تتساقط تِباعًا، ولا تملك حيلة لإنقاذها أو الذَّود عنها، تتعالى كلَّما بالغْتَ في التودُّد إليها، تتمنَّع عنك تمنُّع ربَّات الخُدُور.

وقد تموت فيك كلُّ رغبة في الحياة، وأنت تبصِر الموتَ يغتال كلَّ القيم الجميلة في مجتمعاتنا، وتكاد تختنق من فنون العَبَثِ والخيانة والغدر.

وقد تكتشف بعد طول عناء أن جريرتَك في الدنيا أنك حاولت أن تعيش إنسانيتَك، وتتعايش مع القوم بسجيَّتِك، بعيدًا عن أي تنطُّعٍ أو تصنُّع.

فتقرر بعد كل هذا -وبكل ما أُوتيت من تعقُّل وقناعة- أن تُضيِّق دائرةَ معارفك، أن تُخطِّطَ لانسحاب رحيم يحفظ كبرياءك، أن تنطويَ على خيباتِك فلا تبوح بها لأحد؛ مخافةَ أن تُتَّخذَ من لدن القوم سِخْرِيًّا!

ليس عيبًا أن تكون طيِّبًا في زمن الخبث، ولا صادقًا في زمن الكذب، ولا أن تشقى لتُسعِدَ مَن حولك في زمنٍ الكلُّ ينادي فيه نداءَ يوم القيامة: “نفسي نفسي!”، ليس عيبًا أن تصمُدَ أمام تيار جارف يكاد يُذهِل المرضعةَ عمَّا أرضعت؛ لكن العيب أن تنسلخَ من كل جمالياتك لتساير ركب الزيف، أن تتجرَّدَ من آدميتك لتكيل القوم بصاعهم، أن تتبرَّأَ من طيبتِك فيتحجَّر أجملُ ما فيك: قلبك!

للأسف، ما زالت مجتمعاتنا تنظر للإنسان الطيب تلك النظرةَ المشفقة، التي لا تبصر فيه غيرَ الإنسان الضعيف المنكسر المغلوب على أمره، شخص لا يملك إلا أن يقول: (نعم)؛ لعجزِه عن تحمُّل تَبِعَات (لا)، شخص مسحوق ممسوخ الهُوِيَّة، إمَّعة يحتاج دومًا لمن يأخذ بيده؛ لكنهم لا يفقهون أن ذاك الطيب هو إنسان قرر أن يبقى وفيًّا لإنسانيته، أمينًا على فطرته، إنسان يملك من الجَلَد والصبر ما يجعله يَكظِم غيظَه، ويمتص بحنكته ذاك الغبارَ الذي يلوِّث فضاءَ العَلاقات الإنسانية، إنسان فَقِه قولَ حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديدُ بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملِك نفسَه عند الغضب))؛ متفق عليه.

إنسان توَّج الوقارُ والشرف هامَتَه:

وإذا غضِبتَ فكنْ وقورًا كاظمًا…للغيظِ تُبصِرُ ما تقولُ وتسمعُ

فكـفَـى به شـرفًا تصبُّـرُ ساعـةٍ…يرضَى بها عنك الإلهُ ويدفعُ

إنسان اكتنفته رحمةُ الله، فملك بها دنيا نفسه، فما عليه أن تفوتَه دنيا غيره؛ كما قال الرافعي!

 

أمنيات

في بعض الأيام العجاف يحلو لمخيلتنا أن تلتحف بظل أمنيات وإنْ بدت عزيزة المنال، عسى رذاذها المتساقط يبلّل تلك الأرض العطشى، ويروي ظمأ قلوبٍ استبدّ بها الوهن حتى كاد يفنيها.

فلا تَعْتبْ على الحالمين، ولا تكُ في ضيق مما يحدّثون، فالحلم عكازتهم التي يتوكّؤون عليها ويهشّون بها على هموم استباحت حماهم، ولا تشُقّ بعصا السخرية والامتعاض درب أمانيهم، ولا تُسَفِّه كل أحلامهم، فيعقوب عليه السلام ظلّ يرعى أمنية لقائه بحبيبه يوسف عليه السلام ردحًا من الزمن حتى أذن الله فأينعت وكان اللقاء، وأيوب عليه السلام ما أسقط سلاح الصبر وهو يحلم بالشفاء حتى عافاه الله، وما تقاعس الحبيب المصطفى في بناء أمة وقد جابه ألوانا شتى من المحن لتحقيق مُناه.

فكل حقيقة كانت حلما، وكل نجاح مبدؤه أمنية، فلا تقطع دابر أمنياتك وامضِ بها بتؤدة حارسًا أميناً حتى يأذن المولى بمعانقتها أو تُدَّخر لك في ذاك الموقف العظيم.

 

أحلام

ضاحكةٌ مستبشرة.. هكذا أحلامنا لحظة ولادتها، يغذّيها تفاؤل غريب يصمّ آذانه عن كل مستحيل، فيركض ويركض معانقًا أماني تتراءى له في الأفق البعيد، يحلّق في سمائها متعاليا عن كل الأوجاع التي تنغّص واقعه، عينه ترنو فقط لذاك الوهم الجميل الذي صار يغذي شرايينه، ويتنفّس من خلاله الصعداء في لياليه الكئيبة.. وعلى حين غرة تتعثر الخطى، فتعبس الأحلام ويتلاشى ذاك الوميض، فلا تسمع غير ضجيج المستحيل يسحق كل الأماني ويحطم كل الآمال.

هكذا هو سيناريو حياتنا: أحلام تنمو.. وأخرى تتهاوى.. أحلام خُلقت لتموت.. وبعضها خُلق ليهبنا الحياة!

 

اكسر قيدك!

من الفطنة والكياسة أن نمتطي صهوة الأمل وندوس كلَّ ألم، ونُحيل ترابَ مُلِمّاتِنا تِبراً. فلا نركنْ لتلك الروح الانهزامية المتخاذلة التي تفتكُ بكل خلايا الحياة فينا. ولا يظفر بهذا المرام إلا صاحب فكرٍ نيّر ونفسٍ وثّابة وهمّة متوقدة تأبى أن تسلسلها صروف الدهر. ولهذا وجب على المسلم عدم الخنوع للأزمات والانبطاح أمامها منكسرًا ذليلا، يحصي الثواني ذوات العدد مترقّبا أفول نجمه. علينا أن نصنع من “الليمونة الملِحة شرابا حلوا” ومن غمامة الهموم مُزْنا ترتوي منه نفوسنا العطشى، وتنهض به هممنا المتآكلة.. التفتْ للجانب المضيء في حياتك ولا تبقَ أسير مواطن ضعفك، ولا نديماً لعثراتك وردد مع الشاعر قوله:

لا تقنطنَّ من النجاح لعثرةٍ…ما لا يُنال اليوم يدرك في غدِ

وضع نَصْبَ عينيك قول ابن عباس رضي الله عنهما حين ابتلاه الله بأخذ حبيبتيه:

إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما…ففي لساني وسمعي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي دَخَلٍ…وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثور

 

ليلُ الأديب

للّيل سحرٌ خاص عند عشاق الحرف، وللحرف طقوس فريدة عند من امتزجت أرواحهم به، فلا تحلو مغازلته إلا في عُزلة نائية عن أعين المتطفلين، بعيدة عن ضجيج المزعجين. مستأنسة بأوبة النفس إلى ذاتها وهي تعيد ترتيب أفكارها و تزيل عنها كل كدَرٍ ووحشة خلّفها الرّكض خلف متاهات الحياة المتشعّبة. فلا تعجب إن عشق الأديب سواد الليل واستوحش ضياء النهار.

ودونكم هذا النموذج الرائع للأديب الفذ محمود شاكر الذي يقول في مقالته “الإصلاح الاجتماعي”: “مِن عادتي -إذا ما استبهمَ عليَّ نَفاذُ الرأي- أن أعدِل بأفكاري إلى اللَّيل، فهو أحصنُ لها وأجمعُ، فإذا كان الليلُ، وهدأتِ النائرةُ، وأَوَى الناسُ إلى مضاجِعهم، واستكنَّت عقاربُ الحياةِ في أحجارِها – تفلَّتُّ من مكاني إلى غُرفتي، أُسدِلُ ستائرها وأغلِّقُ أبوابَها ونوافذها، وأصنعُ لنفسي ليلاً مع اللَّيل، وسكونًا مع السكون، ثم أقعد متحفِّزًا متجمعًا خاشعًا أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارَف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجتِ النفس موجَها بين المدِّ والجزر، ثم قرَّت وسكنتْ، وعاد تيَّارها المتدفِّق رهوًا ساجيًا كسعادة الطُّفولة، دلفت إلى مكتبي، أستعين الله على البلاء”.

 

انعتاق

كان يوماً مشهودا، يومًا طالما منّتْ النّفس به، وتهيّبت روحها الطفولية أن تحياه، فقد أنبتت فيها بذور الخوف والرهبة – التي غرستها الأيام-  كل أشكال الضعف والخور فأوهنت عزيمتها وألجمتْ لسانها.. اليوم كان لها موعد مع الفرحة وهي تسمع صوتها يتردد بلا خوفٍ بين ذاك الجمع الذي كانت تفْرَقُ للوقوف بين يديه.. اليوم غرّدت كبلبلٍ صدّاح أطرب قلوب محبّيه وشنّف آذان سامعيه ووافق هوى لدى متتبّعيه.. اليوم عشقت صوتها وهامت بنبرته وقدْ جلّلها ثوب الثقة وألبستها اللحظةُ رداء العِزّة.

 

أنثى مختلفة

دوما كانت تشعر أنها أنثى مختلفة، ومَن حولها يزكون يقينها بتلميحاتهم وتعليقاتهم، لكنها كانت تحتسي نكهة هذا الاختلاف بنفس راضية ومبتسمة رغم علامات الاستغراب التي تبدو على محيا كثير منهم. كانت تدركُ أنَّها تعيش طبيعتها الإنسانية، ومن حولها هم من غيروا جلودهم و ارتضوا سبلا تنأى عن فطرهم السويّة، ورغم ذلك كانت تملك القدرة على مسايرة هذه النفوس المتلونة.

تذكُر يوما حين كانت تنتظر حافلة الطلبة نظرت إليها زميلتها بعد أن جابت بناظريها كل نواحي جسدها النحيل: لا أستطيع أن أتخيلك تحملين “القُفّة” مثلنا إلى السوق أو تحملين معك صبيا أو تضعينه على ظهرك، هذا لا يليق بك، يومها أكملت المشهد ضحكاً، واليوم تأكدت فعلاً أنها لم تخلق لمثل هذا.

أحلامها لم تكن يوما كأحلام كل الفتيات: الزواج وفارس الأحلام والأولاد، كانت تعتقد أنها خلقت لشيء غير هذا، وأن إحساسها بالحياة رهين بما تقدمه من سعادة لمن تحبهم، فكم كانت تبتئس حين تكفهر الحياة في وجوههم، وكم كانت ترقص طربا حين تنكشف كل غمة وتنجلي كل غيمة.. هي هكذا منذ خلقت تحيا بحياة من تحبهم، وتشقى بشقائهم.. وكأن الرافعي عنَاها بقوله: (إنّ من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية؛ ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها..).

ثقافة الصمت!

حين نعجز عن الكلام نصمت..

وحين نشعر بالخذلان نصمت..

وحين يشتد بنا الوجع نصمت..

وحين لا نجد من يفهمنا نصمت..

حتى حينما نغضب.. نغضب في صمت..

صار الصمت سلعةً رائجة لا تبور.. قد نجحوا في تكميم أفواهنا منذ الصغر، علمونا أن الصمت من ذهب، وأن الصمت حكمة، وأن الصمت زينةٌ للمرء تتوج هامته، وكان الأولى أن يعلمونا فقه الكلام ويشحذوا  هممنا لنواجه نوائب الدهر دون استسلام.

 

أن تصمت!!

أن تصمت.. يعني أن تقبل التعايش مع واقع عجزت أن تزحزحه قيد أنملة.. أن تتحمل وخز الألم وأنت ترى فنون العبث ترتقي سلم المجتمع..  أن تقبل بهزيمة روحك وقد أعياها الصراخ، فما وجدت آذانا صاغية لأنينها ونشيجها.. أن تخنق صوت الحق بإرادتك و تقبل الظلم بكامل وعيك.. أن تظل جسدا بلا روح، تقتات كما تقتات البهائم في انتظار أن تغدو يومًا قربانًا لقضية من قضايا الوطنٍ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *