الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بين التصورين العلماني والإسلامي لله والكون والحياة والإنسان إبراهيم الطالب

تتحفظ كثير من الدول الإسلامية على كثير من المواد التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وذلك لتناقضها مع الدين الإسلامي، وهذا التناقض مرده إلى تناقض جذري بين المرجعية العلمانية التي كانت تهيمن على الدول الغربية المنشئة لهيأة الأمم المتحدة حين صدور هذا الإعلان؛ وبين الشريعة الإسلامية التي كان معمولا بها في كل الدول الإسلامية المقتطعة من الخلافة الإسلامية بعد إسقاطها سنة 1924م، بالإضافة إلى المغرب الذي كان مستقلا عنها سياسيا مماثلا لها في الحكم بالشرعة الإسلامية.

تناقض المرجعيتين ترتب عنه تناقض في بناء تصور موحد حول الله سبحانه والكون والإنسان والحياة، مما يعني استمرار الرفض من طرف المسلمين لكل المواثيق الدولية التي تنبثق عن التصور الغربي العلماني المادي المخالفة للشرعة الإسلامية.
فما هي أوجه التناقض بين التصورين العلماني والإسلامي لله والكون والحياة والإنسان.

– التصور العلماني:
نظرت العلمانيين إلى الله سبحانه تتمحور حول اعتباره سبحانه خلق الكون بما فيه من خيرات، وسخرها للإنسان وأمده بالعقل حتى يتمكن من تنظيم نفسه وبَنِي جنسه داخل مجتمع تضبطه القوانين فقط، وتسوده بعدلها، وتضمن حرية الإنسان المطلقة في التفكير والتصرف دون تقيُّدٍ بأي شيء سوى القوانين.
فبعد عملية الخلق ومنحه سبحانه للإنسان نعمة العقل، لم يبق لله -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون- تصرّف ولا تدخل في الكون بل ترك للإنسان الحرية الكاملة المطلقة، فلا مجال إذن للحديث عن شريعة إلهية، أو قانون يراعي أحكام الشريعة، فما دام الله سبحانه قد فوض للإنسان تنظيم الكون وتدبير أموره فليس لأحد أن يدعي الدفاع عن أحكام الدين، أو أن يصنف الناس طبقا لتلك الأحكام.
أما الكون فلا دخل عندهم فيه لله لا من حيث الافتعال ولا من حيث التصريف في حدوث الظواهر الطبيعية من زلازل وبراكين وفياضانات ومطر وجفاف أمراض وفقر وكل ما تعلق بمحيط الإنسان وحياته ونفسه، ويقومون بتفسير كل الظواهر الطبيعية وغيرها بما وصل إليه العلم المادي الذي يقتصر على بحث الأسباب والكيفيات التي تنتج عنها هذه الظواهر والأمراض، وما دام العلم التجريبي الغربي لا يعترف بوجود الله ولا بالقيم الدينية، فإنهم ينفون كونها عقابا من الله مثلا أو تصريفا منه سبحانه لشؤون الكون الذي هو خالقه.
وأما الإنسان عندهم فقد خلق حرا اكتسب ملكة العقل، لا يحتاج إلى توجيه غيره، وعنده من العقل والقوة والرشد ما يمكنه أن يدبر شؤونه بالكيفية التي تحقق له السعادة والرقي، دون اللجوء إلى التقيد بوصايا أو أوامر يضطر معها إلى الحد من حريته، مما ينعكس على إبداعه، لذا فهو يرفض أي وصاية سواء كانت من رب أو سلطة معنوية أخلاقية، لأنه لا يؤمن إلا بالحرية والحرية المطلقة وإذا ما حَدَّ هو بنفسه من حريته فإنما يحد منها بإرادته عبر سَنِّه لقوانين تنظم العلاقة بينه وبين إنسان آخر مثله.
فهذا التصور الغربي العلماني المادي حول الله سبحانه والإنسان والكون والحياة هو الأساس المرجعي والفلسفي الذي انبنت عليه حقوق الإنسان وكل ما تعلق بها من مواثيق وعهود، وهو، كما يبدو لكل مسلم، مخالف لعقيدة الإسلام التي ترتكز بالأساس على الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا، وتعتقد اعتقادا جازما أن هذا الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وذلك إيمانا بقول الله سبحانه:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف. وبقوله سبحانه:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} يونس فالمسلم يؤمن بأن الله سبحانه له الخلق كله وله الأمر كله، لهذا لا يرضى أن يشرِك معه أحدا في عبادته، فما دام هو الخالق فهو المستحق لجميع أنواع العبادة، ومن العبادة امتثال العبد لأوامره سبحانه في المأكل والمشرب والمنكح والسياسة والاقتصاد والأسرة وفي السلم والحرب وفي شأنه كله، وذلك انقيادا لأمر الله سبحانه باتباع ما أنزل: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}الأعراف.
– التصور الإسلامي:
أما نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا فمؤسسة على ما جاء في القرآن والسنة أيضا من أنها دار عمل ستتلوها الدار الآخرة دار الجزاء، فلابد إذاً أن تكون مؤطرة بما يستلزمه الإيمان بالبعث والدار الآخرة: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت.
فالإيمان بالحياة الأخروية جزء مهم في تشكيل تصور صحيح للحياة:{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}الإسراء، {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأعراف
أما فصل الدنيا عن الآخرة في وضع تصور للحياة فهو من منهج الكفار بلقاء الآخرة لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}الروم.
فالإنسان لا يكون مؤمنا إلا إذا اعتقد اعتقادا يقينيا أن المدة التي سيقضيها على هذه الأرض هي جزء صغير من حياته التي سيستكمل جزءها الثاني والأخير بعد موته وخروجه من قبره، وهذا الجزء الثاني أبدي تتحدد السعادة فيه بمدى استجابة العبد لربه في الجزء الأول، قال تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}غافر، فمن كان يؤمن أن سعادته في مستقبله الآتي لا محالة رهينة بحاضره فوق الأرض فلا يجد مانعا من أن يضبط تصوره للحياة بما يستلزمه الإيمان باليوم الآخر من تنظيم لشؤون حياته وفق ما أمر الله سبحانه به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما دام يؤمن بأن الله أنزل الإنسان إلى الأرض وتعاهده بالوحي لكي لا يضل ويشقى، وذلك معنى قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة، فلن يعترض على حكم لله أو رسوله بدعوى وجوب ملاءمته للقوانين الدولية أو لمواثيق حقوق الإنسان.
يبدو مما سبق أن هناك تناقضا جذريا بين المرجعية الفلسفية المادية التي حدد حقوق الإنسان في الغرب، وبين المرجعية الإيمانية الإسلامية التي لا ترى حقا للإنسان إلى إذا كان مؤطرا بحق الله عليه في عبوديته، لذا من المستحيل عند كل مسلم بَنى تصوره لنفسه ولحياته وللكون استنادا على القرآن والسنة، القبول بالمفاهيم العلمانية حول الأسرة وتصريف الشهوة وحرية الاعتقاد وحق تبديل الكفر بالإيماني مهما كان متسامحا ومنفتحا، ومتعايشا مع الآخر.
فأي تدخل من أي علماني سواء كان عربيا أو أجنبيا في أمور الدين الإسلامي كيفما كانت علمانيته جزئية أم شاملة، مرفوض من قبل المسلمين المخلصين لتصورهم الإسلامي لله والحياة والكون ولإنسان وذلك لأنهم موقنون بأن العلمانيين {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} الروم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *