لماذا اخترنا الملف؟

الناظر إلى مدة بقاء الصليبيين في بيت المقدس منذ دخولهم له وحتى هزيمتهم وإخراجهم منه مدحورين يدرك أنهم لم يكملوا قرناً من الزمان، وما كان هذا الأمر ليتم لولا توفيق الله جل وعلا أولا، ثم وجود الغيرة على الدين والمقدسات، وتمكن عقيدة الولاء والبراء وروح الجهاد ودفع المعتدي من نفوس المؤمنين.
من أجل هذا أدرك الصهاينة أنهم ما لم يقضوا على هذين الأمرين عند المسلمين فإن مصيرهم سيكون كمصير أمثالهم من الصليبيين، فاخترعوا مصطلح التطبيع بينهم وبين جيرانهم لتحقيق القضاء على مكمن الخطر الذي يهددهم.
فالصهاينة يعلمون جيداً أنه لا خطر عليهم من الحكومات العربية العلمانية، فقد سالموهم منذ زمن طويل؛ والقبول بدولة اليهود من قبل هذه الحكومات لا تحقق لها الأمن الذي تريده، ولا يكفي هذا لضمان استقرارها؛ لأن الخطر عليها إنما يأتي من الشعوب المسلمة، ولا طريق للوصول إلى هؤلاء إلا عن طريق ما يسمونه بـ(التطبيع).
وقد قام الباحث اليهودي (ألوف هارايفن) في مؤسسة (فان لير) في القدس بدراسة عن سبب انعدام الثقة بين اليهود والبلدان العربية، وقرر في بحثه أن هناك أربع عقبات صعبة تعمل على ذلك، وذكر منها: الموقف الثقافي والعقائدي للعرب والمسلمين تجاه اليهود، ثم وضع حلولاً لهذه العقبات، وكان الحل للعقبة العقائدية: ضرورة وجود برامج مركبة في المجال التعليمي والثقافي تهدف إلى تفتيت الملامح السلبية للجانب الآخر، وأحد الأسس الحيوية لبرنامج كهذا هو الفحص، والتغيير الشامل للبرامج التعليمية في كل ما هو متعلق بما يلقنه العرب والصهاينة في المدارس عن بعضهم بعضا.
وفي كتاب أعده تسعة من المتخصصين لدراسة آفاق التعاون الثقافي مع مصر بعنوان (إذا جاء السلام/أخطار واحتمالات) جاء في مقدمته: “ضرورة مراجعة البرامج التعليمية بشكل مباشر في الدول العربية، وحذف المواد التي تعمق روح العداء بين الكيان الصهيوني والعربي” . انظر (خطر الوجود اليهودي لشبير).
إن الصهاينة يسعون اليوم إلى أن يجعلوا كل ما هو شاذ وغير طبيعي من الوقائع والمتغيرات الحادثة بسبب العدوان اليهودي على العرب والمسلمين، أن يتحول إلى شيء طبيعي جداً، وليت الأمر يقتصر على المستويات الرسمية، ولكن المقصود به في الأساس هو الإحاطة بالمحيط الشعبي ليدخل التطبيع بكل سوءاته في جملة مسلَّماته.
فالعَلَم الصهيوني الذي لا يزال يحمل بخطيه الأزرقين حدود توسع الدولة اللقيطة -من النيل إلى الفرات- سيكون متعيناً على الأجيال بين النهرين أن تراه مرفرفاً على البلدان والمدن الممتدة بينهما، بل ترى بأعينها رمز قبلة اليهود (النجمة الدالة على الهيكل) تتراقص بينهما فوق بنايات السفارات، ووسط الأعلام والرايات (الشقيقة والصديقة).
وسوف يتعين على الأجيال أن يكون شيئاً اعتيادياً لديها، أن تسمع معزوفات التحية العسكرية في الاستقبالات الرسمية، تتخللها الانحناءات والتحيات لذلك العلم وما يحمله، وللشخصيات التي تمثله.
وستُطالب الأجيال -في ظل ذلك التطبيع- ألا تتحرج من وضع كلمة “إسرائيل” بدلاً من فلسطين على الخرائط في الكتب والصحف والمجلات وشاشات الفضائيات وغيرها، وسيكون مطلوباً من تلك الأجيال ألا ترى غضاضة وهي تشاهد على الشاشة بعض الساسة وهم يلقون الكلمات الودية تحت قبة الكنيست، وهي لا تزال تحمل على واجهتها العبارة التوراتية “لِنَسْلِك أعطي هذه الأرض، من نهر الفرات الكبير إلى نهر النيل”.
وفي ظل التطبيع سيُنكَر على من ينكرون فتح أبواب الفتن الأخلاقية، والتحرشات الأمنية، والتشوهات المنهجية، والتضييق على من ارتضى الإصلاح انطلاقا من المرجعية الإسلامية.
وفي ظل التطبيع سيعاقب كل من رفض الرضوخ لمخططات الصهاينة، كما وقع للمهندس الشاب محمد بن زيان الذي فصل عن عمله بسبب رفضه المشاركة في دورة تدريبية نظمتها شركة Sofrecom maroc، وأشرف عليها خبراء صهاينة.
وفي ظل التطبيع أيضا قدمت جريدة معاريف العبرية طلبا إلى وزارة الاتصال المغربية باعتماد مراسل لها بالمغرب يدعى “نوعام مشمعون” ، يهتم بتغطية الأخبار السياسية والرياضية والاقتصادية والتجارية، وكذا أخبار الطائفة اليهودية.
وفي أبريل 1995 ولما أقدمت مصالح الجمارك المغربية على مصادرة منتجات كان سيشارك بها 7 من رجال الصناعة الصهاينة في معرض تجاري بالدار البيضاء، أدلى وزير الصناعة والتجارة الصهيوني آنذاك “ميشا هاريش” بتصريح هدد من خلاله المغرب بسبب رفضه السماح للمستثمرين الصهاينة المشاركة في معرض بالبيضاء، وجاء في ثنايا تهديده أن هذا الرفض سيضر اقتصادياً بوضع المغرب.
وزعم الصهيوني “هاريش” وفق ما نقلته يومية “جوريزاليم بوست” أن موقف المغرب يناقض مبادئ تحرير التجارة كما جاءت في اتفاقية “الغات”، مضيفا أن المقاطعة السياسية للكيان الصهيوني ستخلف ردود فعل قوية من لدن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
إنها الحرب الصامتة، الحرب التي تحقق للعدو كل شيء، ولا أحد تقريبا يشعر بشيء، وحتى إن شعر بشيء فإن اللوبيات الاقتصادية والسياسية..، والدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني ستتدخل على الفور لمساندته والتمكين لمخططاته.
إنها حرب تتسلل لِواذاً من بين أظهرنا، وتخترق جميع مناحي الحياة بصمت ومكر ودهاء، لإثبات شرعية الدويلة اللقيطة في المنطقة العربية، وانتزاع اعتراف بها.
لكن مع هذا كله مادام القرآن بين أيدينا، وما دام الناس يقرؤون البقرة وآل عمران والأنفال والتوبة، فإن القدس وفلسطين السليبة ستظل في قلوب المسلمين، ولن يرضوا أبدا في يوم من الأيام بالتطبيع مع أعدائهم، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).
وفي محاولة منها لتسليط الضوء على هذا الملف الهام والحساس، ارتأت جريدة السبيل فتح هذا الملف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *