تخريج حديث قدسي مشتهر عند الناس ذ. محمد أبو الفتح

ورد في حديث قدسي مشتهر عند الناس: “إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلىّ صاعد، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغنى عنهم! ويتبغضون إلىّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلي، أهل ذكري أهل مجالستي، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلى فأنا حبيبهم، وإن أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، أقول له: أين تذهب؟ ألك رب سواي، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو، وعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرتها لهم”.

هذا الحديث مشهور متداول في شبكة الأنترنيت، ويستدل به كثير من الخطباء والوعاظ في خطبهم ومواعظهم ودروسهم، وبعض الناس يُعَلقونه في محلاتهم التجارية، لجمال معانيه، ولكن ليس كل كلام حسن تصح نسبته إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فلنحذر من التقول على الله ورسوله، فإن ذلك من أعظم الإثم، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام21)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (البخاري 109).
وقد بحثتُ عن هذا الحديث فلم أقف عليه بهذا السياق، وإنما هو مُلَفَّق من مجموعة من الأحاديث المتفرقة:
• فقوله : “إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي”.
أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (974) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/77)، وكذا أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4563).
كلهم من طريق بقية بن الوليد قال حدثنا صفوان بن عمرو حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير و شريح بن عبيد الحضرميان عن أبي الدرداء رضي الله عنه .
وقد أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (2371) بالانقطاع بين الحَضْرَمِيَيْنِ وبين أبي الدرداء رضي الله عنه. وكذا ضعفه المناوي في فيض القدير(4/616).

• وقوله في الحديث: “خيري إلى العباد نازل وشرهم إلىّ صاعد، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغنى عنهم! ويتبغضون إلىّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلي”.
أخرجه الرافعي في التدوين(3 /4)، والديلمي كما في زهر الفردوس (4/257) من طريق علي بن محمد بن مهرويه القزويني، عن داود بن سليمان القزويني، حدثني علي بن موسى الرضى، حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين بن علي، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله تعالى: {يا ابن آدم ما تنصفني، أَتَحَبَّبُ إليك بالنعم، وتتَمَقَّتُ إلي بالمعاصي، خيري إليك منزل، وشرك إلى صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عند كل يوم وليلة بعمل قبيح، يا ابن آدم! لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت إلى مقته}.
– داود بن سليمان القزويني: قال في الميزان (2/8): “كذبه يحيى بن معين، ولم يعرفه أبو حاتم، وبكل حال فهو شيخ كذاب، له نسخة موضوعة على الرِّضا، رواها علي بن محمد بن مهرويه القزويني”.
– وقد تابعه أحمد بن علي بن مهدي الرّقّي عن أبيه حدثنا علي بن موسى الرضا به. (زهر الفردوس 4/257). قال الشيخ الألباني في الضعيفة (3287): “لكن الرّقّي هذا وأبوه لم أعرفهما، ولعل أحدهما سرقه من الغازي؛ فإن لوائح الوضع والصنع على الحديث ظاهرة”.
قال في لسان الميزان (1/222) : “أحمد بن علي بن صدقة عن أبيه عن علي بن موسى الرضا، وتلك نسخة مكذوبة، روى عن القعنبي، اتهمه الدارقطني بوضع الحديث. انتهى. ثم قال: أحمد بن علي بن مهدي الرقي عن علي الرضا بخبر باطل. فالله المستعان. وهو ابن صدقة المذكور وهو أحمد بن علي بن مهدي بن صدقة وما علمت للرضا شيئا يصح عنه”.
فقد بين الحافظ ابن حجر أن أحمد بن علي بن مهدي الرقي الذي لم يعرفه الشيخ الألباني هو نفسه أحمد بن علي بن صدقة، يُنسب إلى جَدِّ جَدِّه صدقة. فتأكد يقينا ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله فراسة، من كون الحديث موضوعا، فلله دَرُّه من إمام!
وخلاصة القول هي أن هذا الجزء من الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى البيهقي في الشعب (4589) من طريق ابن أبي الدنيا بإسناده عن شيخ من قريش يكنى أبا جعفر عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب أن الله عز وجل يقول: “يا ابن آدم خيري ينزل إليك، وشرك يصعد إلي، وأتحبب إليك بالنعم، وتتبغض إلي بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم قد عرج إلي منك بعمل قبيح”. وفي إسناده هذا الرجل المجهول عن مالك بن دينار -وهو ثقة من صغار التابعين- عن بعض الكتب، فلعله أخذه من كتب بني إسرائيل.

• قوله في الحديث: “أهل ذكرى أهل مجالستي، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلى فأنا حبيبهم، وإن أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، أقول له: أين تذهب؟ ألك رب سواي”.
لم أقف على هذا الجزء من الحديث مسندا، وعبارة “أهل ذكري أهل مجالستي” فيها نظر من جهة المعنى؛ لأن المجالسة مفاعلة تقتضي الجلوس من طرفين، ولا يجوز أن نَصِفَ الله بشيء لم يصف به نفسه في كتابه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

• وأما قوله في آخر الحديث: “الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو”
فقد صح نحوه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز و جل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر”. (رواه مسلم 2687).

وبالجملة فهذا الحديث القدسي الذي ذاع وانتشر في المنتديات، وتداوله الناس، إنما هو حديث مُلَفَّقٌ من مجموعة من الأحاديث بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع، وبعضها لا أصل له معروف.
وفي كتاب الله تعالى، والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من الألفاظ البليغة، والمعاني الرقيقة ما يغنينا عن الضعيف والموضوع.
فمن القرآن مثلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (الانفطار6-7)، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} (يس77).
ومن السنة الصحيحة مثلا قوله تعالى في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَه؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» (مسلم 2577).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *