أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان

فلقد قضى الله بحكمته أن يكون لنبيه المصطفى المختارصلى الله عليه وسلم صحبٌ كرام؛ ورجال أفذاذ، هم خير الخلق بعد الأنبياء، وهم الذين حملوا رسالة هذا الدين وبثّها في أصقاع المعمورة، واختصهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولولا انفرادهم بالأفضلية والخيرية؛ لما اختيروا لهذه الصحبة العظيمة، والتي هي أجلّ مرافقة على مرّ العصور؛ كيف لا! وهي مرافقة أفضل الخلق وأكرمهم.
ثم إنه قد وقع بين البعض من الصحابة رضوان الله عليهم شيء من الخلاف في أمور اجتهدوا فيها، ورأى كلٌ منهم أنه على الحق، ولم يكن اختلافهم هذا من أجل دنياً يرغبون إصابتها، ولا ملك يريدون انتزاعه -كما يتوهم بعضهم- بل كان السبب المنشيء لهذا الخلاف هو: إحقاق الحق؛ الذي يرى كلٌ منهم أنه معه، فرضي الله عنهم أجمعين.
ومن المؤسف أن يقع البعض في الصحابة الأخيار، وأن ينال ممن صحبوا الرسول الكريم، وشهد لهم كبار هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح، ونصّبوهم المناصب العالية في دولتهم، وسيّروهم على الجيوش الفاتحة لبلاد العالم آنذاك.
ومن هؤلاء الصحابة الكرام، الصحابي الجليل، الخليفة والملك القائد، صاحب الفتوحات الإسلامية، والقائد المحنّك، وداهية زمانه: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
من هو معاوية؟
هو: معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، يكنى أبا عبدالرحمن، وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة.
كان أبيض طويلاً، قال أسلم مولى عمر: قدم علينا معاوية وهو أبيض الناس وأجملهم.
قال المدائني: عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صغير؛ فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند ـ أم معاوية ـ ثَكِلتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه.
إسلامه
أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه يوم فتح مكة.
وروي عنه أنه قال: (أسلمت يوم القضية أي: يوم عمرة القضاء، وكتمت إسلامي خوفاً من أبي) ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/131) ، وهو ما جزم به الذهبي.
فضائله
1- كان أحد الكتاب للرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه كان يكتب الوحي.
2- شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف، كما شهد اليمامة واليرموك.
3- صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث كثيرة؛ في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
4- قال عمير بن سعد رضي الله عنه : لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “اللهم أجعله هادياً مهدياً وأهد به”. (رواه البخاري في التاريخ الكبير) (5/240).
ثناء الصحابة والتابعين عليه
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد رجوعه من صفين: (لا تَكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظرُ إلى الرؤوس تندرُ عن كواهلها) ابن كثير.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ـ يعني معاوية).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية ) أي: من السيادة، قيل: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: (كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية)، اللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة »
وعن قبيصة بن جابر رضي الله عنه قال: (صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطل جهلاً، ولا أبعد أناةً منه).
حكم سب الصحابة
ينبغي لكل مسلم أن يعلم أنه لا يجوز له بحال من الأحوال لعن أحد من الصحابة أو سبّه، ذلك أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم نَقَلة هذا الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً، ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه” (متفق عليه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم” (البخاري ومسلم).
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن من يلعن معاوية، فماذا يجب عليه؟
فأجاب: (الحمد لله، مَن لعن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما؛ ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء: كطلحة والزبير، وعثمان وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين، وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل، أم ما دون القتل؟ كما بسطنا ذلك في غير هذا الموقع) (مجموع الفتاوى).
لكنّ البعض يُصرّ على الخوض فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من خلاف، على الرغم من أن كثيراً من العلماء إن لم يكن جُلُّهم؛ ينصحون بعدم التعرض لهذه الفتنة، فقد تأول كل منهم واجتهد، ولم يكن هدفهم الحظوظ النفسية أو الدنيوية، بل كان هدفهم قيادة هذه الأمة إلى بر الأمان؛ كلٌ وفق اجتهاده، وهذا ما أقرّه العلماء.. وإن من العقل والروية؛ أن يُعرِض المسلم عن هذا الخلاف، وأن لا يتطرق له بحال من الأحوال.
وللعلم فمعاوية يعترف بأفضلية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه خير منه، أورد ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتابه “تاريخ دمشق” ما نصّه: (جاء أبو موسى الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليّاً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله! إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان؛ فأتوه فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأُسلم له).
شيئاً مما وقع بينهم فما عليه إلا الاقتداء بالإمام أحمد حينما جاءه ذلك السائل يسأله عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض الإمام عنه، فقيل له: يا أبا عبدالله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: (اقرأ: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” البقرة) هذا هو الجواب نحو هذه الفتنة؛ لا أن يتصدر بها المجالس، ويخطأ هذا، ويصوّب ذاك!
فمعاوية رضي الله عنه صحابيٌ جليل، لا تجوز الوقيعة فيه، فقد كان مُجتهداً، وينبغي للمسلم عند ذكره أن يبيّن فضائله ومناقبه؛ لا أن يقع فيه، فابن عباس عاصر الأحداث الدائرة بين علي ومعاوية، وهو أجدر بالحكم في هذا الأمر؛ وعلى الرغم من هذا؛ إلا أنه حين ذُكر معاوية عنده قال: (تِلادُ ابن هند، ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبرٍ قط، ولا بالأرض، ضناً منه بأحسابنا وحسبه).
عن الإمام أحمد قال: (إذا رأيت الرجل يذكر واحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بسوء؛ فاتهمه على الإسلام).
روى الآجري في “الشريعة” (5/2466) قيل لابن المبارك: ما نقول في معاوية؟ هل هو عندك أفضل أم عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: (لتُرابٌ في مِنْخَري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ ـ أو أفضل ـ من عمر بن عبد العزيز)، فعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه؛ مع جلال قدره وعلمه وزهده وعدله، لا يقاس بمعاوية؛ لأن هذا صحابي؛ وذاك تابعي!
ولولا فضل معاوية ومكانته عند الصحابة لما استعمله أمير المؤمنين عمر – وما أدراك ما عمر- خلفاً لأخيه يزيد بعد موته بالشام، فكان في الشام خليفة عشرون سنة، وملكاً عشرون سنة، وكان سلطانه قوي، قال الذهبي في « السير » (3/132) : « حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم.. فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله؟ خيراً منه بكثير، وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه، وسعة نفسه وقوة دهائه، ورأيه وله هنات وأمور، والله الموعد. وكان محبباً على رعيته، عمل نيابة الشام عشرين سنة والخلافة عشرين سنة ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان وفارس والجزيرة واليمن والمغرب وغير ذلك.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في ثنايا هذه الأسطر؛ أن نشير إلى أن الكثير مما قيل ضدّ معاوية لا حقيقة له، وهو من دسّ الرافضة؛ الذين يحملون عليه.
قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: (قد تعصّب قوم ممن يدّعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية أحاديث ليغيظوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمّه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح).
هذه إشارات للمنهج الصحيح في التعامل مع الصحابة وما وقع بينهم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *