ما مدى مصداقية دعوة الحركة النسوية إلى تمتيع المرأة بحريتها واستقلالها؟

أدى مفهوم حرية المرأة عند الغرب إلى ظهور ما يسمى بالحركة النسوية، وهي حركة تشكلت تدريجياً على مدى قرنين من الزمان (التاسع عشر والعشرون) في أوربا وأمريكا، من خلال عدة مؤسسات واتحادات ومنظمات نسائية، مثل: الرابطة القومية لحق المرأة، والمنظمة القومية للنساء، والاتحاد النسائي العالمي، وغيرها من المؤسسات. وكانت هذه الحركة تطالب في أول الأمر ببعض حقوق المرأة كالتعليم وحق العمل، ثم أصبحت تطالب بحق المرأة السياسي، وأخيراً أصبحت تنادي بالمساواة التامة مع الرجل في جميع مجالات الحياة، واعتبار العلاقة مع الرجل علاقة تنافس وتضاد، ونتيجة لذلك أصبحت هذه الحركات تنادي بالحرية التامة للمرأة (ومن ذلك دعوى ملكية المرأة لجسدها، وحقها في إقامة علاقات جنسية مع بنات جنسها). (انظر الحرية ونضال المرأة الأمريكية؛ سارة م. إيفانز، ترجمة أميرة فهمي ص:87. وأضواء على الحركة النسائية المعاصرة لروز غريب ص:24).

وقد قامت تلك الحركة على الشعور بالذاتية المنعزلة المتمردة، التي تعادي الرجل، وتجعل العلاقة معه علاقة حرب مستعرة، وأن المجتمع يقوم على أساس الفرد وليس على الأسرة أو العائلة؛ ولهذا فإن الخطط والسياسات التي ترسم للمجتمعات والأمم هناك، تبنى على الفرد، ولم يعد للعائلة ولا للأسرة شأن يذكر، في خضم دراساتهم، فالفرد -بفرديته- هو المقصود ذكرا كان أو أنثى، علما أن المجتمع في بيئتنا الإسلامية يقوم على الأسرة -الذكر والأنثى- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وهكذا تبدلت المفاهيم والقيم، وشاعت شعارات الحرية التي يزعمونها وينادون بها، فصارت المرأة لا تعني زوجة، ولا أماً، ولا أختاً، ولا بنتاً، بل صارت مجرد أنثى عادية، ولم يعد الرجل زوجاً أو أباً أو أخاً أو ابناً، بل صار رجلاً عادياً، ولم يعد هناك انتساب وثيق إلى هذا الكيان العائلي، بل أصبح الرجل أو المرأة كل منهما زميل دراسة، وصديق عمل، أو خليل، ولا شيء غير ذلك.
ولم يعد ينظر -باهتمام- إلى الزواج وإقامة البيوت؛ فالغرائز تلبى دون مسؤوليات تلقى على العواتق والكواهل، وكلٌّ حر في التنقل بين أحضان من يشاء. (انظر دعوى تحرير المرأة؛ د. صالح بن حميد).
هذا المفهوم الغربي لحرية المرأة أدى إلى انقلاب القيم وانعكاس المفاهيم، وارتبط بمصالح مادية وإعلامية، وتيارات اجتماعية، تعادي الدين والعقائد، وتروج للإلحاد والإباحية والشذوذ الجنسي، وهكذا يتجسد مفهوم تحرير المرأة -في المنهج الغربي ومن يتبناه من بني جلدتنا- في صنع امرأة مشاكسة عدوانية، محاربة لجنس الرجال، قد تقبل من التقاليد السائدة ما تراه يكرس لها حقوقها، ولكنها ترفض ما ترى أنه واجبات أو مسؤوليات.
إنها ليست دعوة إلى تحرير المرأة – كما يزعم مدعوها -، ولكنها دعوة إلى تحرير الوصول إلى المرأة. لقد انعتق الجميع من كل الروابط والقيم والمسؤوليات الأسرية، والحقوق الاجتماعية، وحوَّلوا العلاقات العائلية إلى وظيفة رتيبة أشبه بمحاضن تفريخ! وهو ما عبرت عنه إحدى صحفيات نيشان بالحرف في برنامج مباشرة معكم الذي خصص حلقة للاحتفال باليوم العالمي للمرأة.
فالموازين التي تقاس بها مكانة المرأة اليوم هي موازين مادية بحتة، وأصحاب رؤوس الأموال وأرباب المصانع لا يؤمنون إلا بالنفعية، وبما أن المرأة خرجت من بيتها، واحتاجت إلى العمل، فلماذا لا يستغلونها ليحققوا فائض الربح من ورائها؟!
ومن ثم كان لزاماً على المرأة المسكينة أن تواجه -وحدها وبمفردها- جفاف هذا المجتمع، وغلظ هذا التعامل، فأصبحت الضحية الأولى التي تنعكس عليها متناقضات ذلك المجتمع وعيوبه.
فالمرأة “المتحررة” لم تخسر الحياة فقط، بل إن الحياة قد خسرتها، خسرت فيها المربية الفاضلة للأجيال الضائعة، والأم الحنون والزوجة الكريمة؛ فقد شُغلت المرأة بالعمل، وتحصيل المتاع الرخيص، ولقد خسر العالم -إذ خسر- الأسرة السليمة المتزنة. (المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم، أ.د.عمر الأشقر).
ولقد أدت هذه النتيجة التي وصلت إليها المرأة في الغرب مثلا اليوم إلى تحررها اجتماعياً؛ وذلك برفض نظام الزواج لبناء الأسرة، وأصبحت تمارس العلاقة الجنسية بحرية تامة، دون قيود الزواج أو الطلاق، بل الأمر يعود -في ذلك- إلى ما تمليه المنفعة المادية فحسب، لتعيش المرأة حاضراً لا طعم له، ومستقبلاً غامضاً، تلقي بنفسها بين فكين، وحيدة منبوذة، وما ذاك إلا إفرازات البيوت الخربة، والمسؤوليات الضائعة، حين ألقاها الرجال عن كواهلهم. (دعوى تحرير المرأة، د. صالح بن حميد).
هذا هو مفهوم حرية المرأة عند الغرب، مفهوم يقوم على مبادئ علمانية ومادية، أغرقت الإنسان في الضياع والرذيلة والعبثية، وأدت إلى فقد الإنسان المعاصر للقيمة والهدف والغاية، فأصبح تائهاً ضائعاً بين مبادئ وأفكار ونظريات وفلسفات كلها تصب في البوتقة المادية والشهوانية بكل صورها وأبعادها وألوانها. (دعوى تحرير المرأة، د. صالح بن حميد، قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية؛ د.فؤاد العبد الكريم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *