خطر الفتوى بغير علم

التجاسر على الفتوى ممن هو ليس أهلا لها خطر عظيم؛ وباب للشر مستطير؛ ويكفي هذا الفعلَ شناعة وقبحا أنه كذب وافتراء على الله جل وعلا وقول عليه بغير علم، والله تعالى يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل).

أي “ولا تقولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ وَهَذا حَلاَلٌ إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعُ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى”.
والله تعالى يقول:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف)، فهذه المحرمات الأربع الواردة في الآية ورد تحريمها لذاتها تحريما أبديا. وأصل الشرك والكفران، وأساس البدع والعصيان، وما هو أغلظ منها ومن جميع الفواحش والآثام، والبغي والعدوان هو: القول على الله تعالى بلا علم.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) (رواه البخاري ومسلم).
وروى أبو داود وابن ماجه أيضاً عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ؛ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء الْعِيِّ السؤالُ).
وقد نقل عن الإمام مالك أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: “من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب”.
وسئل عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف).
قال مالك: قال القاسم بن محمد: لأن يعيش الرجل جاهلا خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم. فقال مالك: هذا كلام شديد. ثم ذكر في ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وما خصه الله عز وجل به من الفضل وما آتاه من العلم، فقال: يقول أبو بكر في ذلك الزمان: لا أدري.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الخروج، فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال: ما شاء الله، يا هذا إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه.
قال ابن خلدة: يا ربيعة إني أرى الناس قد أحاطوا بك، فإذا سألك الرجل عن مسألة فلا تكن همتك أن تخلصه، ولكن لتكن همتك أن تخلص نفسك.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه قال: في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال سحنون يوما: إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم، ثم قال: ها أنذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتؤخذ به الحقوق أما كنت عن هذا غنيا.
قال العلامة المالكي محمد بن يوسف الشهير بالمواق (ت:883هـ): “وهذا شأن الفتيا في الزمن المتقدم، وأما اليوم فقد خرق هذا السياج وهان على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح؛ وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم: لا أدري فلا جرم أن آل الحال بالناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال والمتجرئين على دين الله تعالى” (مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل 17/40).
فهذه جملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ وأقوال أئمتنا من لدن الصحابة الأتقياء والتابعين الأولياء وكلهم أجمعوا أمرهم وأتوا صفاً يَحْذَرون ويُحَذِّرون من الإفتاء بغير علم، أو حتى التسرع إلى الإفتاء ولو بعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *