المراجع المعتمدة عند العلمانيين للطعن في الوحي

المراجع المعتمدة عند العلمانيين
للطعن في الوحي

إذا نظرنا إلى ما كتبه أعداء الوحي من العرب فإننا نجد أنهم -حسب ما ذكره الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي- لم يخرجوا عما كتبه الغربيون من يهود ونصارى عن التوراة والإنجيل، كاليهودي باروخ سبينوزا، وريشار سيمون، ودافيد فريدريش شتراوس، ورينان جوزيف ارنتس، وبولتمان رودولف، وهؤلاء الخمسة هم أشهر فلاسفة الغرب الذين أسسوا مناهج فلسفية نقدية وتاريخية لدراسة الوحي المتمثل لديهم في الكتاب المقدس، وقد سار الكتاب العرب على منوال هؤلاء، واستعاروا مفرداتهم ومناهجهم، وارتدووا أزياءهم الفكرية والفلسفية، ومن يقرأ كلام الجزائري محمد أركون -مثلا- فيما يسميه التاريخية يرى بوضوح مقدار تشبعه بهذا المنهج حتى أصبح عقيدة يزن بها الكتب المنزلة وكل قضايا الوحي ومقتضياته.
ولتبصير القارئ الكريم بمرجعية العلمانيين الرجعية في قراءة وتحليل النصوص الدينية، نسلط في هذا الركن الضوء على مرجعيتهم، ونورد ترجمة موجزة للفلاسفة الخمسة الذين يعول العلمانيون على نفايات آرائهم وأفكارهم ويسقطونها على الوحي المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 1- باروخ أو بنديكت سبينوزا (1632-1677م)

ولد لأسرة يهودية من يهود البرتغال، هرب والده إبراهيم وجدّه ميخائيل من البرتغال إلى هولندا، وكان والده زعيما للجالية اليهودية في أمستردام وجدّه كان مهتما بأمر الكنيست اليهودي، تلقى تربية يهودية متعمقة، ودرس مبادئ التاريخ الديني والسياسي والنقدي لليهودية، واطلع على كتب الفلاسفة اليهود في العصر الوسيط، وأصبح حاخاما يهوديا، ثم فيلسوفا ودارسا للعلوم الإنسانية، تأثر بالفلسفة الديكارتية وشكك في الدين والوحي، وقال بخلود المادة وأنكر خلق الخلق من عدم، تأثرا بأحد الفلاسفة اليهود يدعى عزرا، وكتابات متصوفة اليهود الذين يقولون بأن المادة حية.
آمن بمذهب وحدة الوجود بمفهومه الغربي الإلحادي وقال بأن الجوهر هو الله وهو الطبيعة الخالقة.. وقرر أنه على قدر ما يكون للإنسان من تجارب وأفكار بقدر ما يتقرب من الله، أي يتقرب من حالة إله، أو يصبح إلها بمعنى من المعاني، وهذا ما توصلت إليه الحداثة في سياق ضلالاتها العديدة.
..فعل الكثير لترويج وتطوير الإلحاد -كما تقول الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت- ولقضية التفكير الحر، وأنه لا يصح للدين ولا للدولة المساس بحرية الفكر.
ومن كتبه التي ألفها كتابه الذي أسماه (الرسالة اللاهوتية السياسية) وتسميه بعض الكتب (البحث اللاهوتي السياسي)، وقد ترجمها تلميذُ كتبِه العلماني العربي حسن حنفي تحت اسم (رسالة في اللاهوت والسياسة)، وفيها وضع أسس المنهج التاريخي لدراسة محتوى النص الذي يرى أنه يتراوح بين التاريخية والأسطورة للتحرر من سلطة الأسطورة والقضاء على أسبقية المعنى، وحتمية الحقيقة في الوحي، وأنه يجب البحث في تاريخية النص لا البحث عن المعنى والحقيقة فيه.
وقد أثر سبينوزا بأقواله هذه على الذين جاؤوا بعده، وهز بفلسفته المكانة المتبقية للعهد القديم والجديد من الكتاب، وخاصة الإنجيل الذي توارد على دراسته مجموعة من أبناء النصارى الغربيين متأثرين بمنهج سبينوزا، وذلك من أساليب اليهود المعروفة في تخريب الشرائع من داخلها، مما جعل مؤلف الموسوعة الفلسفية يقول: “لا شك أن سبينوزا كان يهوديا حتى النخاع، وأن مذهبه كان رؤيا فلسفية للتلمود، وجاء على خطى التراث اليهودي..”.
..ثم أضاف: (وظهرالطابع اليهودي في فلسفته بشكل جلي في روسيا القيصرية، حيث كان يشرف على ترجمته وطبعه دور نشر يهودية، وكان شباب اليهود في المنظمات التقدمية والثورية يعرضون فكر سبينوزا بتفسيرات مادية، وإنه لَأمر يدعو إلى الشك أن تجد المذهب الفلسفي يحتمل كل التفسيرات، وينفذ إلى كل البلاد والفلسفات من خلال اليهود وحدهم، وإنه لأمر يدعو إلى الشك أكثر أن تكون دراسة سبينوزا في مجتمعات خاصة مغلقة تشبه الجمعيات اليهودية القبلانية السرية، وأن يطلقوا عليه اسم “ماركس بدون اللحية” أضف إلى ذلك امتلاء المذهب بالألفاظ التي توهم بالدلالات وهي لا تدل على شيء، وانطماس الغائية فيه حتى انتهى إلى الآية المطلقة) اهـ. (الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم حنفي ص:237-241، الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت ص:242-243، وتاريخ الفكر الأوروبي الحديث لرونالد سترومبرج ترجمة أحمد الشيباني، الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).

2- ريشار سيمون (1638-1712م)
مفكر فرنسي وخطيب ورجل دين نصراني أو كما تقول بعض كتب الفلسفة “لاهوتي وشارح فرنسي” كلفه بعض الرهبان بوضع فهرس بالمخطوطات الشرقية لدى الكنائس لديهم، وبذلك توفرت له مجموعة واسعة من الوثائق عن اليهودية والكنائس الشرقية مما أتاح له أن يكون تصورا جديدا عن تكوين مختلف أسفار الكتاب المقدس وتحريرها، فكتب كتابه “التاريخ النقدي للعهد القديم” الذي يرى فيه أن النسخة الأصلية للإنجيل قد ضاعت، وأن التحريف تناوله، وأن الواجب يقضي أن تخضع النسخة الحالية للفحص والتدقيق والدراسات اللغوية والتاريخية، وقد كره البروتستنت والكاثوليك هذا الكتاب، لأنه يشكك في أهم وثائقهم الدينية، ويقوض أساس الديانة النصرانية، ثم ألف “التاريخ النقدي لنص العهد الجديد”، ثم “التاريخ ملاحظات جديدة حول نص العهد ورواياته” وهي كلها تنتقد النصوص الإنجيلية وتشكك في ثبوتها وفي تناقلها، وسبب ذلك ما اكتشفه سيمون من تناقضات واختلافات وإضافات وحذف وشروح مختلفة، وتواريخ متعارضة وغير ذلك من الأسباب التي حفزته إلى هذه الشكوك الكبيرة وقادته إلى وضع تفسيرات تاريخية وعقلانية للكتاب المقدس عندهم. (موسوعة أعلام الفلسفة ص: 1/594، والمعجم الفلسفي ص:354، والموسوعة الفلسفية ص:251، الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).
وقد أخذ هذا عنه المرتابون من أبناء المسلمين وطبقوا نظرياته وأقواله على القرآن العظيم رغم الفوارق الكبيرة بين الحالين.

 3- دافيد فريدريش شتراوس (1800-1874م)

لاهوتي وشارح ألماني بروتستانتي، كان قسا لقرية في ألمانيا ثم مدرسا في مدرسة دينية، تتلمذ على الفيلسوف هيجل، وألف كتابا باسم (حياة يسوع) الذي أثار ضجة كبيرة وتألبت عليه السلطات الدينية في ألمانيا بسببه، وأثار بكتابه هذا دهشة أوربا وانذهالها بما أضفاه من شك وريبة في المسيح عليه السلام وفي الإنجيل، وقد عبر فيه عن آرائه المخلصة في أنه ينبغي ألا يختلف النظر إلى هذا الكتاب بعهديه القديم والجديد عن النظر إلى أي كتاب آخر من حيث التحليل والنقد، وقد ركز شتراوس نفسه لعمله النقدي والتاريخي فأصدر عدة كتب هي “العقائد المسيحية”، و”الروماني على عرش القياصرة”.
تصدى شتراوس لإفراغ النصرانية من كل مضمون خارق للطبيعة وبإرساء الدين على عقلانية الفكرة النصرانية وحدها، وهذا الاتجاه بعينه أخذه الحداثيون العرب، كما أخذوا من شتراوس وجوب إخضاع الوحي لمتطلبات النقد التاريخي، حيث رأى أن النصرانية لا تقبل التفسير إلا من خلال ما سماه “أسطورة يسوع” التي يرى أن العقلية اليهودية هي التي اختلقتها.. وما انفك شتراوس يتقدم اتجاه مادية متشددة حتى ذهب في أواخر حياته إلى إنكار دين يقوم على إله شخصي، معتبرا أن العلم يعطي تفسيرا وافيا للكون، واعتبر وجود المسيح أسطورة، واتجه بِكُرهٍ شديد للمسيحية لترسيخ النزعة الهيجلية المادية وخصوصا في كتابه “الإيمان القديم الجديد”. (موسوعة أعلام الفلسفة 2/15-17، تاريخ الفكر الأوربي الحديث 4/110، الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).

4- رينان جوزيف ارنتس (1823-1892م)
كاتب وفيلسوف فرنسي نذره أهله من صغره للكهنوت، فدرس على أيدي معلمين دينيين ثم تخرج كاهنا وتعلم العبرية، ثم توجه إلى الفكر الألماني وابتعد عن الإيمان الكاثوليكي وتخلى عن الكهنوت، وبدأ بدراسة التاريخ والفلسفة، وحصل على الدكتوراه في موضوع بعنوان “حول ابن رشد والرشدية”.
ألف عدة كتب في الدين النصراني بأسلوب فلسفي تاريخي، أشهرها “تاريخ أصول المسيحية” في سبعة أجزاء، و”حياة يسوع” على نمط شتراوس، و”دراسات في التاريخ الديني”، وتاريخ شعب إسرائيل في خمسة أجزاء.
اتسمت فلسفته بنزعة هيجلية ونزعة شكية رافضة للثابت، وأعلن عن رفض كل خارق للطبيعة والإيمان بالطبيعة وقوانينها التي لم تخرق، والإيمان بالعلم الحر. والتزم بهذه المبادئ في نظرته إلى العلم والتاريخ والدين والماورائيات، وأعطى العلم أهمية كبرى، واعتبره الناموس الذي لا تعيش البشرية بدونه، والتزم بالوضعية، واعتبر أن كل المعارف تأتي عن دراسة الطبيعة والتاريخ، وهو المبدأ الذي أخذه أركون وقدسه وطاف حوله في أغلب كلامه ومؤلفاته.
واعتبر رينان أن لكل شيء في التاريخ تفسيرا إنسانيا، وأن الدراسات التاريخية يجب أن تكون ذات نظرة طبيعية، وبناءا على نظرته التاريخية هذه فقد رفض كل ما يخرق الطبيعة ولا يستثني الأساطير التي يقصد بها ما في الأديان وكتبها وهو يقصد الكتاب المقدس عند النصارى حيث تبنى قضية النقد التاريخي لتاريخ النصرانية، فأبعد الطابع التقديسي عن الأبحاث في الكتاب المقدس لديهم، وأسس شرحا علمانيا له، بنظرة نقدية فيلولوجية -طرق نقدية تعتمد على التاريخية والمقارنة- اعتبرت أن الإنجيل روايات تاريخية متناقضة، واستبعد رينان كل الخوارق والمعجزات. (موسوعة أعلام الفلسفة 1/518-521، تاريخ الفكر الأوربي الحديث 4/110، الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).
وهذا المنهج نفسه أخذه الحداثيون والعلمانيون العرب وحاولوا تطبيقه على الإسلام.
5- بولتمان رودولف (1883-1976م)
كاتب وفيلسوف لاهوتي ألماني، كان رائد حركة “نزع الطابع الميثولوجي” أي الأسطوري عن النصرانية، وقول كتب تراجم الفلسفة بأن فكره اليوم يستلهمه الذين يسمون “لاهوتيي موت الله” تعالى الله وتقدس عما يقول الملحدون علوا كبيرا.
كان ابنا لقس لوثري درس تاريخ العهد الجديد ودرس اللاهوت وألف كتابا بعنوان “العهد الجديد، إنجيل يوحنا”، و”لاهوت العهد الجديد” و”يسوع المسيح والميثولوجيا”، اهتم فيها بالجانب النقدي التاريخي للجانب “العجائبي” أي العجيب، والجانب الذي يسميه الأسطوري، وركز على شطب الجانب العجيب والجانب الأسطوري من الوحي حسب رأيه. (موسوعة أعلام الفلسفة 1/271-272، انظر الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *