كيف تتعايش مع ذنوبك؟ -الحلقة الثانية- حامد الإدريسي

..الذنوب التي نتكلم عنها تحديدا، والتي نحاول التعايش معها، هي ذنوب لها صفة الإدمان، بحيث أن الإقلاع عنها أمر شاق على النفس، فهي تغذي نفس الإنسان وتعطيها نصيبها من الخطأ وجرعتها من المعصية التي لا ينفك عنها بشر، بحيث تصبح مقدار ما يحتاج إليه ليرضي بشريته، وليحس بشيء من ذلك التمرد الذي يغذي غروره ودلاله على ربه (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ).

الاستسلام للذنب
هذا شعور يجعل الذنب مسيطرا على صاحبه، متمكنا منه، لا يفكر في التخلص من رِبقته، ولا يسعى في الفكاك من سلطته، يحس بأن ذنبه ذاك قدر محتوم، وشؤم لازم، فلا يحرك في دفعه ساكنا، بل قد تجده لا يستغفر من إثمه، ولا يسأل الله أن يعافيه من شره.
التحايل لعدم الاعتراف بالذنب
وهذه من شر البلايا، ومن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه صاحب المعصية، إذ يتولد لديه دافع قوي للتهرب من الذنب بطرق غير حميدة، وذلك من خلال التحايل لعدم الاعتراف بالذنب، فيبحث عن الفتاوى الشاذة، والأقوال الغريبة، وتجده يفرح بأي قول يبيح له الوقوع في ذلك الذنب، ولو كان من أي عالم، فتجده سرعان ما عرف علماء بلاد بعيدة، وعرف أسماءهم وحفظ أقوالهم، لا لشيء إلا لأنهم أفتوه بجواز الوقوع فيما وقع فيه، ومتى ما صار لديه هذا الميول عمي عن الحق، وبدأ يغمض عينيه عن الأدلة الواضحة الصريحة، فأصبح من أهل الهوى بعد أن كان من أهل المعاصي فقط، وأعجبته الشبهة إذ وافقت الشهوة، وأصبح يزعجه أن يسمع أدلة التحريم، وينحاش منها كما ينحاش الصحيح من السقيم، وصارت جرأته على الذنب مصحوبة بجرأة أكبر منها على النصوص الشرعية، وأقوال أهل العلم المعتبرين، فأغلق باب التوبة من ذلك الذنب إلى الأبد، وهذا حصل لكثير ممن فتنوا بسماع الأغاني، ولجؤوا إلى هذه الفتاوى الشاذة حين أعيتهم التوبة ومقاومة الذنب، ولم يستطيعوا أن يتعايشوا مع الذنب تعايشا صحيا.
فماذا نعني بالتعايش الصحي مع الذنوب التي نقع فيها باستمرار؟
نعني به أن يكون موقفك منها إيجابيا رغم أنها تهاجمك بين الفينة والأخرى، بحيث تكون سقطتك مدروسة، لا ينكسر لك فيها عظم ولا ينخدش لك فيها لحم، بل تصعد من الحفرة وأنت غير فارغ اليدين، وبعبارة أخرى أن تحاصر ذنوبك في مجال تأثير ضيق لا يتعدى كونها سيئات أنت مستعد لها تماما.
وهذا التعايش يحقق مجموعة من الأهداف، منها أن محاولة الخروج من قيد الذنوب تبقى مستمرة أثناء التعايش ولا تخبو أبدا، ومنها أن الذنب لا يسيطر على صاحبه ولا يجعله يستسلم لدوافعه، ومنها أن إحساس المذنب بأنه عاص متمرد لا يطغى على إحساسه بأنه عبد لله يقلبه في أقداره، ويتوب عليه إن شاء متى شاء.
والتعايش مع الذنوب، ينبني على مجموعة من الأسس:
أولا: كن صريحا مع ذنبك
فالذنب ذنبك، وأنت اقترفته بملئ إرادتك، فلا تتهرب منه، وهذه أول خطوة للتعايش الصحيح مع ذنوبك، أن تعرفها وتعترف بها، دون أن تعطيها أكثر من حجمها، ودون أن تخرجها من دائرتها، فهي ذنوب صدرت من عبد ضعيف يرجو رحمة مولاه، ويخاف عقابه، وينتظر عفوه ومغفرته، وليست فسوقا وتطاولا، وجحودا لنعمة الله، فلا تحاول التهرب من هذا الواقع بإنكاره أو نسيانه، بل استحضره في كل مرة تذنب فيها، ولا تترك المجال لهواك أن ينكر الذنب، ولا لغفلتك أن تنسيك إياه، وانظر إليه بعينين، عين باكية لله عز وجل نادمة، وعين تنتظر التوبة، وتستبشر بالعفو القريب.
ثانيا: التقدير الصحيح للذنب
الذنوب قسمان؛ كبائر وصغائر، وهناك قاعدة أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، لكني لا أوافق على هذه القاعدة، ولا أرى عليها دليلا يمكن الاعتماد عليه، وليس المجال مجال إثبات ذلك، لكن على الإنسان أن يقدر الذنب ويقدر حجمه ووقته وظرفه، لأن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، تقسيم مهم من ناحية وضع كل ذنب في محله، وكثير من الناس يخلط بين الدرجتين، والتحصين المثالي، أن يجعل لكل من النوعين أساليب وقائية، تختلف عن النوع الآخر، ولو جعل النوعين سواء، لأدى تجرؤه على الصغائر إلى تجرئه على الكبائر، والله أعلم.
ثالثا: امسح جبينك واغسل يديك
عندما تلطخ يديك بشيء ما، فإنك تبادر إلى غسلهما وإن كنت تعلم أنهما سيلطخان مرة أخرى، فلا يعقل أن تترك غسل يديك بحجة أنهما سيتسخان من جديد، ولو قال لك قائل: لا تغسل يديك فإنك وإن غسلتهما فإنهما لن يبقيا نظيفتين، فستجيبه بأن العقل يقتضي غسلهما إلى حين أن يتسخا من جديد، فضرورة اتساخهما مرة أخرى لا تنفي ضرورة غسلهما كل مرة.
هذا هو منطق التوبة، فالتوبة بمثابة الصابون الذي نغسل به أنفسنا حين نلطخها بالذنوب، وضرورة هذا الاغتسال متجددة باستمرار، لأن الامتناع عن الذنوب مطلقا أمر لا يمكن أن يحصل أبدا، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم”، وبهذا نعلم لم كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مائة مرة!
إن التعايش مع الذنب يقتضي الاستعداد للتوبة المتجددة في كل مرة يقع فيها الإنسان في الذنب، فالاستعداد الدائم للتوبة هو ملاذ المذنبين، وهو العلاج الأمثل الذي يقضي على أوساخ الذنوب، ويغسلها باستمرار حتى لا يبقى من درنها شيء، قال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مراتٍ؛ هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ؛ قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، وكذلك التوبة إذا تكررت من الإنسان، فإنها لا تزال تغسل ذلك الذنب حتى تمحوه، أو يعفو الله عن صاحبه، فيقلع عن ذنبه إلى غير رجعة.
إنك في كدحك إلى ربك لفي مسيرة طويلة، فامسح جبينك كل ما أحسست بالتعب، واغسل يديك كل ما رأيت بهما الأوساخ.
وللحديث بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *