إذا استنطقنا التاريخ وسألناه عن اللباس الذي كانت ترتديه المرأة المغربية طيلة أربعة عشر قرنا؛ أخبرنا أن النقاب والحايك هو اللباس الوحيد الذي كانت تعرفه المرأة في المغرب؛ وقبل سنة 1342هـ/ 1924م كان الحجاب التام والسابغ لكل بدن المرأة هو الأصل في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وعندما ألقى الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي صاحب كتاب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” محاضرته عن تعليم الفتاة في المغرب سنة 1925م اعترض عليه كثير من العلماء آنذاك ظانين أنه يدعو إلى السفور وكشف الوجه؛ لما رأوه من ارتباط تعليم الفتاة بسفورها في دول المستعمرين؛ مما دعاه إلى إلقاء محاضرة أخرى بعنوان (تعليم الفتيات لا سفور المرأة) قال فيها: (إني أعلم أن الذين أنكروا علي الحث على تعليم البنات لهم قصد حسن، وغيرة حملتهم على ذلك). وقال: (ولما كان تعليم الفتيات قد تعارض عند بعض الناس بمسألة سفور المرأة؛ لسبب سأبينه فيما بعد، لذلك نبهت على ذلك في أول كلمة؛ إزالة للبس وإذهابًا لظلام المخالطة). ثم شن حملة قوية على دعاة سفور المرأة في العالم الإسلامي؛ من أمثال: قاسم أمين والطاهر الحداد وغيرهما.
ولما جثم الاحتلال على صدورنا عمل على تعرية المرأة ونشر الأفكار العلمانية المؤسسة لهذا السلوك المنحل من القيم والأخلاق، فقل الاحتشام وانتشر التعري وساد، حتى أضحى على الصورة التي نراه عليها في واقعنا اليوم.
وباتت دور الأزياء والموضة تحدد للمرأة نوعية لباسها؛ فانتشرت الملابس الضيقة والعارية والقصيرة، وأصبحت مجلات الأزياء توجه المرأة إلى ما ترتديه من ملابس في الصيف والخريف والشتاء والربيع، حتى غدت المرأة أسيرة أحدث الأزياء وآخر صيحات الموضة؛ التي فيها تشبه صارخ بالساقطات من نساء الغرب.
وتطور الأمر حتى صارت المرأة المغربية -التي كانت بالأمس القريب لا تلبس سوى النقاب والحايك- لا تستحي أن تخرج إلى الشارع العام وهي ترتدي لباسا يكشف عن معظم مفاتنها؛ وتتجرد من ملابسها على شواطئ البحر، ولا ترى هذا السلوك مثيرا للاشمئزاز والاستغراب.
لقد كان للإعلام العلماني الهدام اليد الطولى في تغريب المرأة المغربية وتأطير الانحراف الذي طرأ على لباس المرأة في المغرب، بتسويقه لنموذج اللباس الغربي المخالف لديننا وهويتنا وثقافتنا وخصوصيتنا، ونشر وتطبيع الصور المخلة بالحياء المخالفة للدين والقانون والعقل والفطرة، وتزيين الفاحشة؛ وإغراء المرأة للتخلي عن لباسها واللحاق بركب المتبرجات المتهتكات بدعوى مواكبة عجلة التطور والعصرنة؛ وإشراك المرأة في المجتمع والحرية والمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة..
لماذا يصر دعاة النخاسة دوما على ربط الحضارة والتقدم بتخلي المرأة عن حجابها وزيها الشرعي الذي أمرها الله بارتدائه؟
لماذا يغضون الطرف عن خطر شيوع الجنس، وعن العلاقة الجدلية بين شيوع العري والانحلال والانحراف في المجتمع؛ وبين تأخر سن الزواج وشيوع العنوسة؟
لماذا كل هذه الحرب على النقاب؟
لماذا يثير لباس أمهات المومنين البغضاء في قلوب العلمانيين؟
لماذا يرفضون انخراط المنقبات في المجتمع بسبب قطعة قماش يرتدينها؟
لماذا يصرون على التنقص من شعيرة النقاب والادعاء أن هذا الأمر لا علاقة له بالإيمان والتقوى وأنه “موضة العصر”، وأن وراءه أهداف سياسية محضة، وأن الفتيات يحاولن من خلاله اقتناص زوج يبحث عن فتاة فاضلة، وأنه عملية اقتصادية فقط، لأن مصاريف الحلاقة وتجفيف الشعر وتصفيفه تتطلب وقتا ومجهودا ومصاريف لا تتوفر لبنات الفئات الفقيرة؟
أليس من حق المرأة -كما يزعمون وينادون- أن ترتدي اللباس التي اختارته طوعا من غير إكراه؟
لماذا لا توجه الحرب في بلد دينه الرسمي الإسلام إلى العري والتبرج اللذان يقفان وراء انتشار ظواهر اجتماعية خطيرة؟
أين هي شعارات حقوق الإنسان والحرية الفردية التي يدعو لها العلمانيون ويصمون بها آذاننا صباح مساء؟ أم أنها حكر على بائعات الهوى وصاحبات الأخدان، وأمهات أبناء الزنا (الأمهات العازبات)، ولا حق للمرأة المسلمة المنقبة التي اختارت التشبه بخير نساء الدنيا في ذلك، وحقها السخرية والتهكم فقط؟!
إننا حين نقرأ كتاب ربنا سبحانه وتعالى نجد أمره للنساء بالستر والعفاف واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأََزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب، “ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ” أي ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة، فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى، وهذا من بركات لباس المرأة الشرعي.
إن الضلالة حق الضلالة أن يعرف المرء ما كان ينكر، وينكر ما كان يعرف، ويصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، وهو عين ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” (صحيح الجامع 3650).
فما أكثر رويبضة هذا العصر؛ لا حظ له من علم أو نظر أو حتى ثقافة صحيحة يتكلم عن لباس المرأة، ويعتبره تزمتا ورجعية، ويزعم أن “هذا اللباس ينتمي إلى البيئة الصحراوية”؛ وأن “النقاب مظهر من مظاهر الغلو في الدين والتنطع؛ ليس بأسوأ من الإباحية”.
يجب أن نعلم أن قضية النقاب وما يدور حولها اليوم من نقاش وجدال لا علاقة لها بالحكم الفقهي الدائر بين الوجوب والاستحباب، ولكنها قضية عقدية مصيرية ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة.
وفي خضم الحرب الغربية على النقاب والدعوة المحمومة من طرف العلمانيين إلى السفور ومنع النقاب؛ والتشكيك في أحكامه المجمع عليها في المذهب المالكي وبين مذاهب الإسلام قاطبة، ارتأت جريدة السبيل إعادة فتح هذا الملف.