شعار الحرية كان من أهم الشعارات التي رفعها رواد الثورة الفرنسية سنة 1789م، وهي كما يقول “لويس كافاريه” وليدة المذهب الفردي L’individualisme، إنها التجلِّي الأقوى للروح الفردية التي حرّكت العالم الأوروبي منذ عصر النهضة، ونمت منذ ذلك الحين في اتجاهين: اتجاه صاعد نحو جعل الفرد هو الحقيقة الجوهرية بل المطلقة، واتجاه ممتدّ في دائرة الجمهور.
وقد ذكر “دافيد ميلر” في محاولة الإجابة عن معنى الحرية أن هناك عدة اتجاهات فكرية تناولت مفهوم الحرية، وذكر منها:
الاتجاه الأول: يتزعمه الليبراليون الذين يؤكدون أن الحرية تتمثل في غياب القيود الخارجية أو التدخل من قبل الآخرين في شؤون الفرد الذاتية، ويدعو هذا المذهب إلى إطلاق الحرية الفردية والحد من تدخل الدولة في النشاطات الإبداعية للفرد، وذلك لأن الفرد -وفق مذهبهم- يشكل القاعدة التي يقوم عليها المجتمع، والدولة بالنسبة لهم هي أداة لحفظ الحقوق الطبيعية للأفراد، فالفرد برغباته وحاجاته المستمدة من الحقوق الطبيعية يسبق في وجوده تكوين المجتمع ويعلو عليه.
وقد دافع “جون ستيوارت ميل” عن المذهب الفردي وذلك بتأكيده على ضرورة الفصل بين الدولة من ناحية والمجتمع والفرد من ناحية أخرى، والمناداة بالحد من سيطرة الدولة على الأفراد.
وطرح تساؤلات عدة، منها:
ما هو القيد الشرعي على سيادة المرء على نفسه؟
أين تبدأ سلطة المجتمع على الفرد؟
وما هو القدر من حياة الفرد الذي يجب أن يترك له ليقرر ما يراه؟
وما هو الجزء الذي يجب أن يترك للمجتمع؟
ومن ثم فأهم ما يميز المجتمع الحر عن المجتمع غير الحر -كما يشير “هايك”- هو أن السلوك الفردي الذي لا يؤثر على المجال الخاص للآخرين يبنى على اختيار الفرد ذاته ولا يفرض عليه من قبل الدولة، أو من قبل أي مؤسسة اجتماعية أخرى.
أما الاتجاه الثاني في تعريف الحرية الفردية فهو اتجاه المدرسة الجمهورية التي يقدم أصحابها مفهوما سياسيا واضحا لمعنى الحرية، حيث تعرف الحرية من خلال ربطها بالتنظيم السياسي، ومعنى ذلك أن الإنسان يصبح حرا حيث يعيش في جماعة سياسية حرة، وتصبح الجماعة حرة حين يحكمها الشعب، كما قال “دفيد ميلر”. وحين تصبح القوانين المطبقة في الدولة انعكاسا لإرادة الأفراد أنفسهم تتحقق الحرية بمدلولها الإيجابي المتمثل في حكم المرء لنفسه، أي أن يصبح المرء سيد نفسه. وهذه الحرية هي التي بنيت عليها فكرة الديمقراطيات الغربية. (مسيرة الديمقراطية، إمام عبد الفتاح).
وقد وصل الاتجاهان إلى الذروة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية في 26 غشت 1789م. فالحرية التي يولد الناس عليها، كما تقول المادة الأولى من الإعلان، هي حرية مطلقة لا قيد عليها إلاّ القيد الذي يجعل الناس سواسيةً في التمتع بها. وفي المناقشات التي جرت في الجمعية الوطنية الفرنسية حول حرية الفكر انتصرت الروح الليبرالية، التي عبَّر عنها “ميرابو Mirabeau”، خطيب الثورة الفرنسية أقوى تعبير. فلا توجد في نظره حقيقة خارجية، حقيقة مستقلة عن الوعي أو سابقة للتصوّر؛ إنما الحقيقة بنت الوعي، إنها ما يراه الفرد في داخل وعيه ويعتقده الحقيقة؛ ولذا فالآراء كلها، صحيحها وزائفها، ذات قيمة متساوية.
فالحرية التي نص عليها إعلان 1789م هي حرية مطلقة؛ هي سيادة العقل الفردي التي نادى بها من قبل واضع أسس فلسفة حقوق الإنسان الفيلسوف الانكليزي جون لوك (1632-1704)، فلا يجوز إذن للقانون أن يتدخَّل في مجال الحرية الفردية؛ فوظيفته محصورة في وضع الحدود التي تحمي الحرية الفردية المطلقة وتكفل تمتع الجميع بها على قدم المساواة. ولا يجوز له أيضا أن يفرض على الفرد واجبات مسبقة تقيِّد حريته المطلقة، لأن الفرد سيِّدٌ مطلق، إنه إلهُ نفسِه وخالق تصرّفاته.
إنّ آباء الثورة الفرنسية والذين هم في غالبيتهم تلاميذ مدرسة جان جاك روسو (1712- 1778) كرَّسوا نظرة روسو حول سيادة الإرادة العامة، التي هي دائما عنده تسير في الاتجاه الصحيح، لأن ما هي عليه فعلياً هو نفسه ما ينبغي أن تكون عليه؛ إنها قانون نفسها ولا يوجد أي قانون أساسي ملزم لها حتى ولو كان العقد الاجتماعي الذي هو سبب وجودها؛ إنها إرادة مطلقة.
ونستطيع بسهولة ويسر أن نربط بين نظرية “ميرابو” التي مفادها سيادة العقل الفردي وبين نظرية روسو حول سيادة الإرادة العامة؛ فكما أن الحقيقة هي بنت الوعي الفردي فإن القانون هو وليد الإرادة العامة التي يكشف عنها صندوق الاقتراع والتي هي وحدها مصدر الحقيقة القانونية ومعيارها.
إن أعضاء الجمعية الوطنية التي أعدّت الإعلان كانت منقسمة إلى حزبين: حزب الدستوريين الذي كان يدعو إلى سيادة مقيَّدة، وحزب الثوريين الذي كان يمثِّل الروح الليبرالية ويدعو إلى سيادة غير مقيَّدة؛ وممّا له دلالته في هذا الصدد أن حزب اليسار في الجمعية الوطنية كان يقول بإمكان التضحية بالدستور نفسه لمصلحة الثورة رغم أنه صادر باسم الأمة. وهكذا فإن الدستور الذي تضعه الأمة ليقيِّد الحكام لن يقيِّد الأمة نفسها التي تستطيع دائماً، كما يقول “سييس”، أن تنقض الأشكال الدستورية وتبدِّلها.
وهكذا فإن الثورة الفرنسية التي قامت ضد السلطان المطلق للملوك قد أحلّت (المواطن الحديث) الذي ولد مع إعلان 1789م محل الملك في التمتع بالسلطان المطلق، مع فارق خطير هو أن المواطن الحديث يستمدّ سلطته السياسية من نفسه أو فرديته المطلقة، بينما كان الملك يستمدّها من نظرية التفويض الإلهي. وبتعبير أكثر دقة فإن عمل الثورة الأساسي الذي عبَّر عنه إعلان الحقوق هو نقل السيادة من الملك إلى الأمة مع تجريد السيادة من كل ما كان يمكن أن يشوبها، بحكم سندها القانوني القديم (نظرية التفويض الإلهي)، من تأثير للدين أو للضمير، أي مع جعلها إرادة بحتة.
إن المجتمع الديمقراطي الذي ولد مع إعلان 1789م هو مجتمع من الآلهة، لأن أفراده ينحون منحى الآلهة في تقرير الحقيقة وفي اتخاذ القرار. ونستطيع في ضوء ما سبق أن نرى مدى دقة الوصف الذي يقدِّمه” جابرييل كومبايره” لحقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة: “إن المؤسِّسين (ويقصد بهم أعضاء الجمعية الوطنية أو التأسيسية كما سمّت نفسها لاحقاً) يخلعون على حقوق الإنسان الخصائص التي كان يُعترف بها قديماً لحقوق الملوك”. (حقوق الإنسان في فلسفة الثورة الفرنسية، د. أحمد الرفاعي).
إن هذا التشبيه يصف نصف الحقيقة؛ أما الحقيقة الكاملة فهي أن ثورة 1789م قد أحلّت الإنسان محل الله -سبحانه وتعالى- بواقع مضمونها الفكري. وقد نص أعضاء الجمعية الوطنية في مقدمة الإعلان أنهم “اجتمعوا في حضرة الكائن الأعلى”؛ فيا ترى من كان الكائن الأعلى في أذهانهم؟!