ربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف

الحديث عن لزوم السنة والاتباع ينبغي أن يقترن بالحديث عن ضرورة الألفة والاجتماع، فابن تيمية -مثلاً- كان أعظم الناس دعوة لمنهج أهل السنة تقريراً وتأصيلاً، ونقضاً ونسفاً لأصول البدع والانحراف، ومع ذلك كان يقول: «إن الله أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران:103]، {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].. ربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين»[1].
ومما يحقق الاجتماع، ويقلّص دائرة الفرقة والنزاع؛ أن يحرر ويظهر ضابط المفارقة لأهل السنة والجماعة، سواء في المسائل أو الدلائل، ومتى يحكم على الفرقة أو الطائفة بأنها خارج أهل السنة.
وقد بيّن ذلك ابن تيمية -في غير مواطن- فقال: «وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والإجماع»[2].
فهذا ضابط المفارقة في الدلائل، فمن كان يتلقى دينه من العقل والقياس -مثل المعتزلة ونحوهم من المتكلمة-، أو يتلقى دينه من الذوق والوجد -كحال المتصوفة-؛ فليس هذا سبيل أهل السنة.
وأما ضابط المفارقة في المسائل، فقد حرره الشاطبي بقوله: «هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرّق شيعاً.. ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا كثّر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة»[3].
وقرر ابن تيمية قريباً من ذلك، فقال: «والبدعة التي يعدّ الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة»[4].
واستصحاب أن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق.. مما يحجّم النزاع ويقلل الخلاف، وكلما ازداد العلم واليقين، كلما عظمت الرحمة والإشفاق، «وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون الشرّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق»[5].
لقد سام المعتصمُ الإمامَ أحمدَ أصناف العذاب من جلد وسجن، لكن الإمام أحمد كان يقول: «كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق -المعتصم- في حلّ.. -إلى أن قال- ما ينفعك أن يعذّب الله أخاك المسلم في سبيلك»[6].
وأمر مهمّ يسهم في تقليص الخلاف، وهو مراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأوّل ونحوهما، فليس كل من زلّ فقارف بدعةً يكون مبتدعاً، وكذا مراعاة اختلاف الأحوال والبلدان، كما حرره ابن تيمية بقوله: «وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم» [7]..
فاللهم اجمع على الحق كلمتنا، ولا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
ـــــــــــــــــــ
[1] الفتاوى، 3/182.
[2] الفتاوى، 3/346، وانظر: الواسطية، ص 23.
[3] الاعتصام، ت: مشهور، 3/177.
[4] الفتاوى، 35/414.
[5] الرد على البكري لابن تيمية، ص 256.
[6] السير للذهبي، 9/261.
[7] الفتاوى، 19/191.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *