محطات من حرب الغرب الخفية والعلنية على الشريعة الإسلامية مصطفى محمد الحسناوي

الشريعة مطلب شعبي على امتداد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ولهذا السبب صعدت القوى الإسلامية في كل البلدان التي جرت فيها انتخابات نزيهة، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع تلك القوى ومع مشاريعها ورؤيتها، وللسبب نفسه وجدت الجماعات الجهادية الحاضنة الشعبية أو الدعم اللوجستي في كل البلدان المحتلة، بغض النظر أيضا عن اتفاقنا أو اختلافنا مع تلك الجماعات واختياراتها واجتهاداتها، لكن تبقى كل تلك الاجتهادات والرؤى والمشاريع سواء من الجماعات الدعوية والوعظية والعلمية، أو الأحزاب الإسلامية، أو تنظيمات المقاومة المسلحة، تبقى كلها داخل الدائرة الإسلامية تتراوح بين الصواب والخطأ والمصالح والمفاسد، فيستغرب المرء كيف أن قوى الغرب تحشر أنفها في مشاكل وقضايا داخلية، مرعوبة فزعة، كلما سمعت كلمة شريعة هنا أو هناك، حتى أن الأمر أصبح مكشوفا مقززا لا يحتاج إلى تدليل أو إثبات.
إن إطلاق التصريحات المعارضة لقيام دولة إسلامية موحدة، أو حتى دولة إسلامية قطرية، أو التصريحات الرافضة لتطبيق الشريعة، أو المعارضة لأسلمة المجتمع أو قطاعات في الدولة، أو المؤيدة لتصرفات عنصرية وعدوانية تجاه الإسلام، أو المحذرة من تنامي الإسلام وانتشاره، ليس ديدن القادة العسكريين أو السياسيين، بل هو مما تشتغل به النخبة المثقفة من مفكرين وباحثين وصحفيين ونشطاء حقوقيين أيضا، على شاكلة مقالة صمويل هانتنغتون، “صدام الحضارات” أو على شاكلة بيان المثقفين الأمريكيين “على أي أساس نقاتل” الذي أيد العدوان الأمريكي، أو بيان المثقفين الأوربيين “لنواجه معا الشمولية الجديدة” الذي طالب بحرب تشنها القوى الديمقراطية على الإسلام.
وأيضا المراكز الاستراتيجية والبحثية الاستشرافية، عبر الدراسات والتقارير والخطط، كمؤسسة راند ومركز كارنيجي والمركز الأمريكي لنشر الديمقراطية في العالم الثالث ومعهد المشروع الأمريكي لبحوث السياسات ومعهد هوفر للحرب والسلام، وغيرها.
في هذا المقال سنستعرض أهم محطات وأساليب محاربة الشريعة الإسلامية، في العشرية الأخيرة، أو منذ ما سمي بالحرب على الإرهاب، التي اتضح أنها حرب على الشريعة.
لا شك أن صوت المطالبة بالشريعة حاضر في كل بلدان وأقطار العالم الإسلامي، إما مسموعا على شكل قعقعات الحرب ولعلعات الرصاص في بعضها، أو أصواتا صاخبة في الميادين والشوارع في البعض الآخر، أو هو خافت مهموس بحذر في بلاد أخرى، لكنه حتما موجود، ولا شك أنه يأخذ شكل اندفاع متحمس غير محسوب العواقب هنا، أو مطالبات هادئة هناك، جملة واحدة هنا، وتدرجا سلسا هناك، بطريقة مباشرة هنا، وبطريقة ضمنية هناك، بجرأة هنا، وباحتشام هناك..
لكن هذا التنوع في الوسائل والآليات والمواقع، لا يعني بالنسبة للغرب إلا شيئا واحدا، التنويع في وسائل المواجهة والمجابهة، لأن تطبيق الشريعة بالنسبة لدوائر القرار الغربي أمر مرفوض جملة وتفصيلا، وكل الوسائل التي تحول دون تطبيقها مباحة بل مطلوبة، بما فيها السلاح والقتل والتشهير والكذب والدجل والافتراء والعدوان والمكر والخداع والاختراق.
فقد هاجم الغرب أفغانستان بحجج واهية، ولم يكن السبب إلا سعي طالبان لتأسيس نظام مستقل عن عباءة وجلباب وقيود النظام الدولي وإملاءاته، قوامه الشريعة الإسلامية.
ثم بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة تم محاصرتها دوليا عبر سلسلة من الإجراءات، كنوع من الحرب الاستباقية للحيلولة دون تطبيق أي مشروع أو برنامج خاص بها، ثم جاء الحصار الصهيوني الطويل لغزة بمباركة وتواطؤ دولي، وعلى رأسه بعض الأنظمة العربية كمصر، لتأديب الغزاويين على اختيارهم للمشروع الإسلامي على علاته، لأن حماس مافتئت تصرح أنها لن تطبق الشريعة.
ولما ملأت المحاكم الإسلامية الفراغ الحاصل في الصومال، وبدأت في تقديم المساعدات والإشراف على الخدمات، وحدت من نشاط أمراء الحرب، ولاقت تعاطفا شعبيا منقطع النظير، ودخل الصوماليون في دين الله أفواجا، وتحاكموا لشرعه ورضوا بحكمه، انتفضت قوى الشر ممثلة في دول الغرب، لمحاربة ما أسمته بممثلي طالبان.
ولما اختار الشعب الأزوادي ممثلا في إحدى مكوناته الشعبية الأصيلة والعريقة (جماعة أنصار الدين)، أن يدبر شؤونه وفق الشريعة الإسلامية، ورغم أن الشعب الأزوادي شعب فقير لا يمكن أن يهدد مصالح الغرب أو يهدد أمنه، والإقليم يوجد بعيدا عما يسميه صمويل هانتنغتون خطوط الصدع، إلا أن الغرب وقف بحزم أمام أي تحاكم لشريعة الإسلام، أو أن يكون لهذا الإسلام أي دور في تنظيم شؤون الناس الخاصة والعامة، فحشد الجيوش وصرف الأموال وحرك العملاء والأذناب والأبواق، لتبرير هذا العدوان في أضخم حرب إعلامية ونفسية وتشويهية للشريعة الإسلامية، وفي سابقة خطيرة وسافرة، لم تكن التهمة هذه المرة الإرهاب، بل كانت التهمة هي تطبيق الشريعة بكل صراحة ووضوح.
وهو تدخل رغم ما قيل من بعض الأبواق، أنه لإنقاذ الأبرياء ولمنع تقسيم البلاد ولمساندة نظام دولة صديقة، إلا أن ذلك يبدو غبيا وتافها، وضحكا على الذقون، إذا ما قورن بحالات مشابهة كقضية تيمور الشرقية وقضية جنوب السودان وسيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من اليمن، وحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري، وهي الحالات التي لم يتدخل فيها الغرب، لمنع الانتهاكات ولا لمنع تقسيم البلاد أو إنقاذ نظام صديق.
يبدو عنصر الشريعة حاسما أيضا في تصنيف الجماعات المسلحة إلى إرهابية أو محظورة أو خطيرة. وبإلقاء نظرة على بعضها تجد أن التهمة الخطيرة التي جعلتها على لائحة الإرهاب هو السعي إلى تطبيق الشريعة، هذا هو المعيار الذي فرق بين جبهة النصرة مثلا والجيش الحر.
حاولنا في هذه النماذج استعراض أهم محطات المحاربة السافرة والعلنية للشريعة الإسلامية عن طريق التدخل العسكري المباشر، هذا الأسلوب قد يتغير في مواطن ومواقع أخرى، فيأخذ أشكالا أقل عنفا وعلنية وأكثر مكرا ودهاء، ففي المناطق التي وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، تستعمل هذه الديمقراطية نفسها لإفراغ الشريعة من مضمونها ومحتواها، فتصبح الديمقراطية أداة لعرقلة التطبيق الأمثل للشريعة.
أما في المناطق التي تكون فيها المطالبة بالشريعة مجرد أصوات متفرقة صاخبة أو خافتة، فإن مواجهتها ومحاربتها تتم بالاعتماد على الأبواق والأذناب من بني جلدتنا، من خلال وسائل الإعلام المختلفة التي تبث الأخبار والتقارير والتغطيات والتحقيقات الكاذبة والمشوهة عن الشريعة الإسلامية، أو من خلال الكتابات الأدبية والفكرية، أو من خلال الرسومات الكاريكاتورية والأعمال الفنية، والتي تسخر كلها لمحاربة الشريعة تحت عناوين ومبررات ومسوغات عديدة، كالربط بين الشريعة والإرهاب، أو الادعاء أن الشريعة معارضة لقيم التسامح والتعددية والحقوق والحريات، أو القول أنها مجرد شعار للوصول إلى الحكم، أو القول أن الشريعة ملتبسة وفضفاضة وهلامية، أو أنها غير صالحة لواقعنا، أو القبول ببعضها ورفض البعض الآخر، أو اختزالها في مبادئها ومقاصدها، أو تصيد بعض أخطاء المطالبين بها وتضخيمها والتركيز عليها.
وأصبحت المطالبة بتطبيق الشريعة جملة وتفصيلا، تهمة توازي وتساوي تهمة الإرهاب، وقد صدرت أحكام قاسية في حق مجموعات أو أفراد طالبوا بتطبيق الشريعة بشكل سلمي في بعض البلدان، بل قد تكون المطالبة بالشريعة بشكل جزئي، أو مجرد الدعوة إلى التزام أحكامها ونصوصها، أو التقيد بالسنة في بعض الشعائر الفردية، تهمة قد تودي بالبعض إلى غياهب السجون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *