إن من المقطوع به عند كل مسلم؛ أن الله تعالى إنما خلقنا لعبادته.
قال عز من قائل: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ” (الذاريات:56-58).
ومن المعلوم أيضا أن الله تعالى لم يترك هذا الباب لاختياراتنا وأهوائنا، بل بيَّن لنا ما هي العبادة التي خلقنا من أجل تحقيقها، وبين لنا أصولها وفروعها، كما علمنا سبحانه شروط وكيفية وآداب كل فرع من تلك الفروع.
والتزام ذلك والعمل به، شرط لقبول ذلك التعبد، والحصول على ثوابه.
والوسيلة إلى معرفة تلك الشروط والكيفيات؛ إنما هي: طلب العلم، والتفقه في الدين.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” 1
وقال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». 2
فمن الخير الذي يُوَرِّثه التفقه في الدين لصاحبه: أنه يحقق له شرطا من شروط قبول العبادة من الخالق جل وعلا.
ويبقى الشرط الآخر؛ وهو الإخلاص لله، وابتغاء وجهه:
قال الله تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”3
قال الفضيل بن عياض: “أَحْسَنُ عَمَلاً”: أخلصه وأصوبه، وذلك أن العمل لا يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة”.
لقد أجمع العقلاء على أن أنفس ما صرفت له الأوقات هو عبادة رب الأرض والسموات، والسير في طريق الآخرة، وبذل ثمن الجنة، والسعاية للفكاك من النار، ولما كان هذا الطريق كغيره من الطرق والدروب تكتنفه السهول والوهاد والوديان والجبال والمفاوز ويتربص على جنباته قطاع الطرق ولصوص القلوب، احتاج السائر إلى تلمس خِرِّيتٍ( 4) يبصره الدروب الآمنة، والمسالك النافذة، ويعرفه مكامن اللصوص، وأفضل الأزمنة، أنسب الأوقات للجدّ في السفر، وقد كان هذا الخريت هو منهج سلفنا الصالح في النسك، وطرائقهم في السير إلى الله وعباراتهم في الدلالة عليه، كانت بحق خير مِعْوان على انتحاء جهة الأمان.
وهذا النسك السلفي العتيق، والمنهج السني الرشيد في التزكية، لا غنى عنه لكل طالب طريق السلامة، فلا عصمة لمنهج في مجمله إلا منهج السلف الصالح.
دع عنك ما قاله العصري منتحلاً *** وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ
إن الأزمنة الفاضلة هي أوقات الجد والاجتهاد والاستزادة من الطاعة، وشهر رمضان الكريم من مواسم الجود الإلهي العميم، حيث تُعْتَق الرقاب من النار، وتوزع الجوائز الربانية على الأصفياء والمجتهدين، لذا كان لزامًا أن تتواصى الهمم على تحصيل الغاية من مرضاة الرب في هذا الشهر، وهو من التواصي بالحق المأمور به في سورة العصر، وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فأخْلقْ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى.
ولقد صامت أمتنا دهورًا، غير أن صومها لهذا الشهر ما كان يزيدها إلا بعدًا عن ربها ومليكها وحاكمها الحقيقي، فصار رمضان موسمًا مفرّغًا من مضمونه مجردًا من حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة وشغل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال.
ولو تجهزت الأمة لهذا الشهر الفضيل وأعدت له عدته، وشمر الناس جميعًا سواعد الجد وشدوا مآزرهم في الطاعة لرأينا أمة جديدة تولد ولادة شرعية، وذلك بعد استعداد جاد ومخاض عولجت فيه الهمم والعزائم لتدخل في الشهر وهي وثابة إلى الطاعات (انظر كتاب أسرار الطاعةوالاستعداد لرمضان).
وتعاونا على تحقيق ذلكم الهدف الجليل (التقرب إلى الله على علم وبصيرة) في بعض فروع العبادة، ألا وهي صيام رمضان الكريم، أعددنا هذا الملف سائلين الله تعالى أن يجعل هذا الشهر فاتحة خير وطالع يمن على أمير المؤمنين وسائر المغاربة والمسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق المبين والصراط المستقيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه ابن ماجة وصححه الألباني
[2]- أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037).
[3]- الملك الآيات (1-2).
4- الدليل الحاذق في معرفة الطريق والمسالك.