ذ. ياسين العمري*: صناعة التفاهة منظومة فكرية وهذه طريقة مواجهتها

 

الآن مررنا على المستوى العالمي وليس (القطري) إلى مرحلة جديدة من الإعلام وهي مرحلة صناعة التفاهة، أصبح الاعلام موجها إلى نشر أكبر عدد ممكن من التفاهة، فعندما نقول التفاهة فلا نقصد بها نشر نوعية معينة من المشاريع الاستهلاكية كما كان الأمر في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وليس ضغط المشاهد حتى يكون همه الأول هو الاستهلاك الى آخره..

لا، بل أصبح الاشكال عندنا أن المشاهد الذي سيستهلك لن يحقق شيئا في حياته حتى يصير عنده عمل لكي يستهلك منه، نحن الآن.. الاستهلاك الأول الذي أصبح المشاهد موجها ومساقا نحوه هو استهلاك الأفكار التافهة، وحتى لا يزايد علينا أحد ويقول أنتم تقصدون فلانا أو علانا، لو كانت القضية متعلقة بشخص أو فرد سواء ذكرا أو أنثى لما أعرنا للمسألة اهتمام، لكن عندما يصبح عندنا نهج يسير وفق سياق معين إذن أصبحت المسألة منهجية، وأصبحت عندنا صناعة معينة، تلك الصناعة التي تدفع بشبابنا بأن يصبح أقصى طموحاته هو صناعة شيء تافه بغرض الشهرة.

وكمثال عندما نرى عالما من علماء المسلمين يقدم خطبة جمعة أو كلمة موجزة في دقيقتين أو ثلاث دقائق، ويرفعها على اليوتوب ويمر عليها 6 أشهر أو سنة وفي بعض الأحيان ثلاث سنوات أو أكثر، نلاحظ أن عدد المشاهدات لا يكاد يتجاوز 100 أو 200 ألف مشاهدة، هذا عالم مشهور وذو كلمة قيمة، في حين نجد شخص قام برقصة غبية أو قال كلمة تافهة أو فعل تصرفا لا يمت للأخلاق ولا للمروءة بصلة على المستوى بلده تجده قد تجاوز المليون والمليونين أو الثلاث ملايين من المشاهدات في أقل من 24 ساعة.

هذا يعني أنه يوجد إشكال، إشكال من ناحية ترتيب الأولويات بالنسبة لنا نحن كمتلقين، أنا لا يمكن لي أن أمنع الناس وأحجر عليهم وأقول لهم هذا ما يمكنكم قوله وهذا لا يمكنكم قوله، ولا يمكن أن يفعله أحد، ولا أحد يملك الحق لفعل ذلك، ولكن الذي يمكنني فعله هو أنه عندما تظهر لي التفاهة لن أشاهدها ولن أتبع التفاهة، ستقول لي كيف ذلك؟

قبل كل شيء الانسان وبصفته مسلما يجب أن يعلم أنه مسؤول عن كل دقيقة وثانية وأين وكيف يمضيها وأنه سيحاسب عنها.. “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ، اذن هذه الأمور كلها تجتمع في المشاهدات.

أضيف عليها المسألة الثانية سواء كنت مسلما أو لا، حياتك ألا تريدها؟ أليس عندك امتحانات؟ أليس عندك أبناء تربيهم أو زوجة تنفق عليها؟ كأننا انتهينا من كل شيء وينقصنا فقط أن نشاهد شخصا يقفز هكذا وهذه ترقص هكذا.. لا.. هذه مسائل يجب على المرء الوقوف عندها.

لمدة أسبوع خذ على عاتقك أنك تنقي مجالك السمعي البصري من التفاهة، عندما تظهر لك التفاهة أنت لست مجبرا لكي تشاهدها، هناك من يقول أنه عندما تدخل إلى صفحتك وتتصفح ما يسمى fil d’actualité يشتغل لك الفيديو أو المحتوى لوحده.

نعم المحتوى يقوم بعمله لكي تشاهده فأنت كذلك قم بعملك ولا تشاهده، وخذ كمثال أنك تملك حديقة بها أزهارا وبها كذلك تلك الأعشاب الزائدة، فإذا شمرت على ساعدك ونزلت للحديقة وأزلت الأعشاب الطفيلية قبل أن تزرع الأزهار، فبمجرد قيامك بهذا العمل سيظهر لك جمال الحديقة، عندما تزيل التفاهة ستتضح أولوياتك، هذه الخطوة الأولى، وبعد ذلك ينبغي للمرء أن ينتقي نوع الأزهار التي سيزرعها في حديقته ويهذبها ويعتني بها حتى تصير أفضل، قضية التفاهة ليست لها علاقة فقط بما أشاهد وما لا أشاهد، بل عندها علاقة بمنظومة فكرية تتولد عندك في الدماغ حتى تشكل لك رأيا عاما، وعندما يصبح عندك الرأي العام يفكر بطريقة تافهة فإنه على الأمة السلام.

ـــــــــــــــــــــــــ

*  داعية إسلامي وأستاذ مادة التواصل باللغة الفرنسية بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *