سجل الخليل بن أحمد الفراهيدي قبل إثنا عشر قرنا في كتابه (العين) أن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل 12.305.412 كلمة (إثنا عشر مليونا من الأبنية وثلاثمائة ألف) وأن عدد الألفاظ العربية 6.699.400 لفظا (ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفا) ولا يستعمل منها إلا 5620 لفظا والباقي مهمل.
قد لا يكون من قبيل الزهو أو المبالغة أن نقول إن اللغة العربية هي أفضل اللغات؛ فهي اللغة التي نزل بها القرآن الذي هو أفضل الكتب، ولغة الإسلام الذي هو خير الشرائع، ولغة الأمة الإسلامية التي هي خير الأمم، ولغة الحضارة الإسلامية التي هي أعرق الحضارات وأنفعها للبشرية، وهي بعد ذلك لغة خالدة خلود التاريخ؛ وهي باقية بقاء العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وذلك لأنها محفوظة بحفظ الله تعالى القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهي بعد ذلك لغة توفر لها من العلماء الأجلاء من عرفوا قوتها وبيانها ومرونتها ودقتها على الوفاء بالمعاني؛ ما لا يعرف له نظير في غيرها من اللغات.
وقد أحب سلفنا الصالح اللغة العربية حبا عظيما؛ وخدموها خدمة جليلة؛ ووهبوا لها نفوسهم؛ ذلك لأن “اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب” لأنها وسيلة فهم الكتاب والسنة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وإذا كان بعض المستشرقين المنصفين قد أدرك عظمة هذه اللغة فإن فئة كبيرة منهم قد حاولوا جاهدين النيل منها والطعن فيها؛ وتبعهم على ذلك العلمانيون والمستغربون؛ وناضلوا من أجل إحلال العامية محل اللغة العربية؛ والكتابة بالخط اللاتني عوض العربي؛ وتدريس العلوم في الجامعات باللغة الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية).
والعلمانيون -كما نقول دائما- لا يأتوا بجديد؛ فالشبهات التي يروجونها اليوم حول اللغة العربية هي نفسها التي رفعها أسلافهم من المستشرقين والمنصرين بالأمس.
فعدهم وجود لغة دارجة في الخطاب اليومي وأخرى عربية فصحى في الخطاب الرسمي مشكلة عويصة تحول دون إيصال الخطاب المنشود؛ هو نفسه كلام المستشرقين الذين مهدوا لدخول الاحتلال؛ وكانوا يدركون أكثر من هؤلاء الببغاوات مكانة اللغة العربية من الدين.
وقد بينت الدكتورة نفوسة زكريا سعيد في كتابها المفيد “تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر” حقيقة من يرفع شعار العامية ويدعو إلى إحلالها مكان العربية؛ وكشفت عن المصادر التي يستقي منها العلمانيون شبههم.
ومما جاء في الكتاب: “العامية ظاهرت في كل اللغات وأنها لازمت العربية منذ أقدم عصورها دون أن تزحزحها عن ميدانها الأدبي، وأن اهتمام العلماء القدامى بدراستها كان جزء من اهتمامهم بالفصحى. لكن هذه الظاهرة -أي: وجود الفصحى والعامية في اللغة العربية- اعتبرت في عصرنا مشكلة أرجع إليها أسباب تأخر أبناء العربية، واقتُرح لحلها اتخاذ العامية لغة للأدب والكتابة حتى تكون لنا لغة واحدة للحديث والكتابة” (تاريخ الدعوة إلى العامية للدكتورة نفوسة زكريا سعيد ص:19-20).
إن الدعوة إلى أن تكون العامية لغة الكتابة والحوار والصحافة والإعلام دعوة في غاية الخطورة على ديننا ووحدتنا وهويتنا وانتمائنا، وهو ما تنبه له جمع من العلماء والباحثين؛ فصنف الدكتور “عبد الرحمن الباشا” رحمه الله تعالى كتابا أسماه: “العدوان على العربية عدوان على الإسلام”.
ثم إن الحمل على الفصحى بالصعوبة والشذوذ دون لغات العالمين أمر لا يخفي ما فيه من الحيف والجور، لأن غيرها من اللغات أعرق في الصعوبة منها وأمعن في العسر منها، وحتى إذا كان هناك عسر فيجب علينا أن ندعو إلى التقريب والتيسير لا إلى الهجر والتغيير!!
لقد سجل لنا التاريخ وقوف بعض علماء المغاربة في وجه هاته الأراجيف التي تروجها نبتة الاحتلال؛ فهذا الشيخ عبد الله كنون الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب يصف حال هؤلاء فيقول: “وأكاد أقول أن هؤلاء الذين ينادون بالمعاصرة، لا يعيشون عصرهم فإنا نرى بلدا من أكثر البلاد تقدما علميا وحضاريا، وممن يتهافت المفتونون بالمعاصرة على التلقي منه والتقليد له، وهو فرنسا، بالرغم من تطوره العظيم يتفانى في الدفاع عن أصالته والمحافظة على تراثه، وقد شعر بمزاحمة اللغة الإنجليزية للغته الوطنية في الخارج، وهجومها عليها في الداخل باصطناع أبنائه لبعض المفردات والمصطلحات والعبارات التي يستعملها الإنجليز فهو ما يفتأ يقاوم هذا الهجوم ويحرص على تنقية لغته من الألفاظ الإنجليزية الدخلية، وفي المدة الأخيرة احتفلت الأكاديمية الفرنسية بتقديم ألفي كلمة فرنسية أصيلة لتحل محل تلك الكلمات الأجنبية في لغة الحديث والصحافة والعلوم، ونوهت الأوساط الفكرية والأدبية بهذه المبادرة التي تدل على الاعتزاز باللغة الوطنية وإيقاف موجة الاستهتار بالمقومات الذاتية للأمة عند حدها. (نحن والتراث).
واليوم يتجدد النقاش حول إحلال العامية محل اللغة العربية؛ وقد تولى كبر هاته الدعوة في بلدنا من جديد العلمانيون والفرانكفونيون المستلبون؛ الذين يفكرون بالفرنسية ويعبرون بالدارجة؛ وتولت المنابر العلمانية ترويج هرائهم وإشهار ترهاتهم.
ولبيان حقيقة من يرفع هاته الدعوى والمرجعية التي يستقون منها أباطيلهم وترهاتهم؛ وتسليط الضوء على جانب من خصائص هذه اللغة العظيمة؛ ارتأت جريدة السبيل فتح هذا الملف.