“إذا كان الاحتياج إلى معرفة بيان الشرك شديدا؛ كان تعريف الناس به أمرا لازما أكيدا. وإذا كان الباعث على هذا التعريف هو إقامة العقيدة فهو من النصيحة المفيدة الحميدة. وليس الإرشاد إلى الخير النافع بأولى من التنبيه على الباطل الضار، بل كلاهما غرض حسن وسنن لا يعدل عنه الساعون في خير سنن. وهذا ما حمل المصلحين المجددين على الاهتمام بدعوة المسلمين إلى إقامة التوحيد وتخليصه من خيالات المشركين”.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني” [رواه البخاري].
ثم قال العالم المغاربي المصلح؛ الشيخ مبارك الميلي: “وإن لم يكن بعقلك بأس فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام علمائنا بذلك كأن لا حاجة للمسلمين إليه. تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول فيحددون الشرك ويفصلون أنواعه ويعددون مظاهره حتى يرسخ في نفوس العامة الحذر منه والابتعاد من وسائله ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك”.
وقد “نتج عن قلة الخوض في هذا الموضوع أن صار الشرك أخفى المعاصي معنى، وإن كان أجلاها حكما. فلظهور حكمه وكونه من الضروريات ترى المسلمين عامتهم يتبرءون منه ويغضبون كل الغضب إن نسبوا إليه. ولخفاء معناه وقع من وقع منهم فيه وهم لا يشعرون؛ ثم وجدوا من أدعياء العلم من يسمي لهم عقائد الشرك وأعماله بأسماء تدخل في عقائد الإسلام وأعماله؛ ثم يدافع عنهم ويحشرهم في زمرة أهل السنة، ويشنع على العلماء الناصحين حتى أن ليخيل إليك أن العامي الواقع في حمأة الشرك جهلا واغترارا أقرب إلى السنة واستقامة من أولئك العلماء النصحاء المؤتسين برسول الله صلى الله عليه وسلم عن خبرة وصدق”.
بل إن من هؤلاء من يبلغ به الحال إلى درجة اتهام دعاة التوحيد بأنهم يحكمون على المسلمين بحكم المشركين..
ولا يلزم من توضيح الشرك والتحذير منه تكفير المعين؛ وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة إلا من كفره الله ورسوله، ويقولون في غير تعيين إنه يوجد في المسلمين من يضاهون في عقائدهم المشركين، ويقولون: ليس كل من وقع في الشرك كافر.
وهذا وسط بين من يكفر كل من وقع في الشرك، ومن ينفي وقوع الشرك في الأمة!
قال أبو جعفر الطحاوي المعاصر لأبي الحسن الأشعري في عقيدته السلفية ما نصه: “ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال مخبرين ومصدقين، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله”.
وفي تبيين ابن عساكر عن أبي علي السرخسي أنه قال: “لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري رحمه الله في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة (ص:149).
وعن سوار بن شبيب قال: “كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما إذ أتاه رجل جليد في العين شديد اللسان فقال: يا أبا عبد الرحمن نفر ستة كلهم قد قرأ فأسرع فيه؛ وكلهم مجتهد لا يألو؛ وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، وإنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث. فقال عبد الله: لعلك ترى لا أبالك أني سآمرك بأن تذهب فتقتلهم! عظهم وانههم وإن عصوك فعليك بنفسك فإن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}[المائدة:105]. نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره عن ابن جرير (3: 259) ونحوه في الدر المنثور للسيوطي عن ابن مردويه (2: 341) .