تناول أمير المؤمنين في خطابه السامي الذي ألقاه يوم السبت 26 رمضان 1429هـ الموافق 27 شتنبر 2008م أصولا عقدية ومنهجية معتبرة؛ ما فتئ جلالته يؤكد عليها منذ توليه زمام الأمور سيرا على سنن أسلافه الميامين، كما ورد في خطاب افتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بفاس في 08 يوليوز 2005م: “وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية، بشأن تحديد مرجعية الفتوى، التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى، لاقتراح الفتاوى على جلالتنا، وفيما يتعلق بالنوازل، التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها، قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية، وإننا لننتظر منكم، أن تجعلوا من هيئة الفتوى، آلية لتفعيل الاجتهاد الديني، الذي تميز به المغرب على مر العصور، في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة، بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية. وبذلكم نقوم بتحصين الفتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عملا مؤسسيا، واجتهادا جماعيا، لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفردية”.
وكما ورد أيضا في خطاب المجلس في 30 أبريل 2004م: “وصيانة للحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي، فقد أسندنا إلى المجلس العلمي الأعلى اقتراح الفتوى على جلالتنا، بصفتنا أمير المؤمنين ورئيسا لهذا المجلس، فيما يتعلق بالنوازل الدينية، سدا للذرائع، وقطعا لدابر الفتنة والبلبلة، مؤكدين أن توسيعنا وتجديدنا للمجالس العلمية، لا يعادله إلا حرصنا على ألا تكون جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء بها، بل نريدها ملتقى لكل العلماء المتنورين”.
هذه القضايا والمحاور الهامة تستدعي البيان والتقريب لعامة الأمة، نذكر بها القراء والرأي العام؛ كما ركزها وأكد عليها جلالته وفقه الله.
أولها: يؤكد أن بلدنا المغرب بلد إسلامي في عراقة متجذرة ولله الحمد مما يقطع به جلالته الطريق أمام من سولت له نفسه الإنحاء بهذه الأمة إلى اللادينية والعلمانية، وتهميش الدستور وهو الإسلام وحصره في زوايا من الحياة العامة لرعايا جلالته الأوفياء. ومما يؤكد هذا الأصل الأصيل ذلكم الاهتمام الموفور بالتدابير النوعية والإجرائية المزمع أخذها وتفعيلها في إصلاح الحق الديني والنهوض به، إرساء لقواعد بناء الدولة والمجتمع القائمة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: يؤكد أن إمارة المؤمنين تقتضي حماية الملة وحفظ الشريعة على الأمة من الهجمات الشرسة للمشوشين على أصول الديانة المتربصين بهذا العهد الوثيق بين الراعي والرعية ألا وهو البيعة.
ثالثها: يؤكد على سنية العقيدة، مما يدفع في نحور العقائد الدخيلة مما يصادم معتقد أهل السنة والجماعة -أكد جلالته بعبارة لزوم السنة والجماعة- المبثوث ولله الحمد في كتب سادتنا العلماء أمواتهم قبل أحيائهم رحم الله الجميع من مثل الرسالة لابن أبي زيد القيرواني والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري وغيرهما كثير، مما نهيب بجلالته طبعه وتوزيعه تحصينا لرعاياه من أعظم ناقض للسنة ألا وهو البدعة، وأعظم ناقض للجماعة ألا وهو الفرقة.
رابعها: يؤكد على أصالة القيم التي تثمر استقامة السلوك والسيرة، مما يقف سدا منيعا أمام كل غريب مستغرب عن هذه الأصالة، مما قد يحلو للبعض نشره على كونه حداثة وثورة تحررية على المبادئ والقيم الظلامية الرجعية البالية، يحاول دعاته مسخ الهوية الدينية الإسلامية المغربية.
خامسها: يؤكد على أهمية العلم الشرعي المستمد من كتاب الله تعالى وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشره في الأمة خصوصا الشباب منها، مما يثمر الحصانة الفكرية والعقدية ضد الدخيل والمتطرف العاري عن الدليل، المائل في فهم هذا الدليل -إن وجد- عن فهم من رضي الله فهمهم من الصحابة والتابعين والأئمة العلماء الهداة المهديين من أمثال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته. كما يسهم العلم الشرعي في تفنيد الفكر الضال بالحجج الدامغة الساطعة بسطوع الوحي من قرآن وسنة وما أجمع عليه صالحو الأمة.
سادسها: يؤكد على رسالة المساجد الخالدة، وأنها تتعدى حصرها في أداء الصلوات المفروضة إلى كونها القلب النابض في تعليم الناس دينهم بدءً بتنظيم الحلقات القرآنية لتحفيظ كتاب الله في جميع الأوقات، وما يلي ذلك من دروس في التفسير والفقه والمصطلح والأصول واللغة ومحو الأمية مما يخدم غاية جلالته في تصحيح المعتقد والعبادة والسلوك وتربية المواطن الصالح لدينه ووطنه وأمته.
سابعها: يؤكد على ضرورة الذود عن حرمات ومقدسات دين الإسلام، كذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وفي طليعتهم -كما قال جلالته- جده المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا يزيد مسؤولية العلماء الراسخين في مضاعفة الجهود للوقوف أمام كل متطاول متجرئ على هذه الثوابت سيما في المنابر الإعلامية من فضائيات أو مجلات أو صحف أو جرائد أو إذاعات بكشف ضلالات هؤلاء في المحاضرات والمنتديات واستصدار البيانات.
ثامنها: يؤكد على إبراز محاسن الإسلام مما ينفي عنه حقد أعدائه وجهل أبنائه، مما يلصق به ظلما وعدوانا من الإرهاب وقاموسه، فهو دين السماحة والعفو والأمن والسلام. وأكد جلالته على الدعوة إلى سبيل الله في إظهار هذه المحاسن علما وعملا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
تاسعها: يؤكد على ضرورة الالتزام بالإسلام في وسطية واعتدال دون تفريط ولا إفراط، لا غلو ولا تقصير، غلو المتشددين الذين شوهوا رونق الإسلام بالبدع المحدثات، وأثقلوا كواهل الخلق بوظائف راتبات. وتقصير المستغربين الذين ما فتئوا ينسلخون من أحكام الديانة في تحلل ممسوخ وإباحية صارخة.
عاشرها: يؤكد على جسامة مسؤولية العلماء أمام الله ثم أمام العباد وأنهم مسؤولون، هذه المسؤولية المتضمنة بدءً كونهم يوقعون عن الله ورسوله، ويبينون أحكام الملة السمحة بكل صدق وأمانة، كما أشهدهم الله على ذلك وأخذ عليهم الميثاق كما قال الله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)).
الحادي عشر: يؤكد على أن تكون قيادة هذه الصحوة الدينية المباركة للعلماء الراسخين المخلصين، مما يجعلهم يشرفون بالتبوء بمركز المرجعية المعتبرة التي لا يصدر الناس إلا عنها في الصغيرة والكبيرة، حسما للفوضى الفكرية العارمة، وهذا لا يتأتى إلا بقوة الحجة ومتانة الديانة وصيانة الميثاق. ((الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق)).
هذه بعض المسائل الفواحة التي اشتملها خطاب أمير المؤمنين وفقه الله وأصلح بطانته في كل وقت وحين، تتعلق بحفظ الدين على عموم المسلمين، زادت ثقل المسؤولية على كاهل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سيما عند استحضار الأرقام المرجوة والمنتظر تحقيقها خصوصا على مستوى الموارد البشرية كما وكيفا، مما يعد تحديا كبيرا في وجه الوزارة الوصية، يفرض عليها إدماج وإشراك الفاعلين في المجال الديني هيئات ومنظمات وجمعيات، والاستعانة بطاقاتها المتوافرة في نظرة توافقية حضارية مستنيرة بنور الكتاب والسنة لخدمة هذا البلد الحبيب؛ مما لا يترك مجالا للغة الإقصاء، ويدفع التوجس من أن تصاب سياسة الإصلاح الديني بالضعف، وتهدد مشاريعها في الصميم. فمثلا تعميم بعض الإجراءات الاجتهادية لبعض نظار الوزارة سابقا في فسح المجال لإمامة الأكفاء في صلاة التراويح سنوات عديدة كما حدث بمراكش على سبيل التمثيل، مما ترك انطباعا إيجابيا وأثرا محمودا عند العامة والخاصة؛ أصبح تجربة رائدة للإشراك المتوخى فرضها الواقع؛ ينبغي أن تحتدى وتقتدى.
والله الموفق للصواب والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا وآله أولي العلم والتقى.