“احتفظ الإسلام ببعض الشعائر والطقوس من الجاهلية وأديان الشرق الأوسط القديم جداً مثل الحج، والاعتقاد بالجن، وتقديس الحجر الأسود، والختان وعذاب القبر وبعض التصورات الأسطورية الأخرى، واستخدمها من أجل إعادة توظيف نُتف متبعثرة من خطاب اجتماعي قديم، بغية بناء قصر إيديولوجي جديد”
موقف العلماني من الإسلام عموماً ليس مستغرباً إلا لكونه يصدر من أناسٍ يقولون إنهم مسلمون، ولكن إسلامهم ليس استثناءً بين الأديان، فهو ليس إلا مجموعة أساطير مخلوطة من أساطير الشعوب القديمة البابلية والسومرية والآشورية والفرعونية(1)، وما هو إلا امتداد للأساطير والوثنيات السابقة كعبادة الإله بعل إله القمر، لذلك جاءت العبادة العروبية عبادة قمرية، وتحتفظ إلى اليوم بقدسية القمر، فالشهور قمرية، والتاريخ قمري، والصيام قمري، والزمن العربي كله قمري(2).
واحتفظ الإسلام ببعض الشعائر والطقوس من الجاهلية وأديان الشرق الأوسط القديم جداً مثل الحج، والاعتقاد بالجن، وتقديس الحجر الأسود، والختان وعذاب القبر وبعض التصورات الأسطورية الأخرى، واستخدمها من أجل إعادة توظيف نُتف متبعثرة من خطاب اجتماعي قديم، بغية بناء قصر إيديولوجي جديد(3).
وهكذا يقرر الخطاب العلماني بناءً على ذلك أن الرسالة المحمدية لم تكن أحسن حظاً من سابقاتها(4)، والإسلام “بالرغم من ادعاء الإسلاميين والمراقبين الذين ينسخون خطاباتهم دون أن يفككوا بناءها لا يفلت من قواعد التحليل التاريخي والسوسيولوجي، والأنتربولوجي والفلسفي بكل تأكيد”(5).
وهو -أي الإسلام- كظاهرة دينية لا يختلف عن بقية الأديان وهو ما يتعارض مع الموقف الإيماني العقائدي الموروث(6)، ويعني أركون بأن الإسلام كبقية الأديان في الخضوع للتاريخية بعكس ما يُنظِّر الفكر الدوغمائي الإيماني(7)، وهو سيخضع لمناهج التحليل التاريخي التي خضعت لها المسيحية إذ أن الإسلام لا يختلف عن المسيحية في كونه يقع ضمن الإطار المعرفي للقرون الوسطى(8)، وسيصبح الإسلام بفعل تيار العولمة الذي لا يقاوم وبفعل الحداثة المكتسحة “شيئاً بالياً لا معنى له” وسوف يتبخر ويذهب مع الريح(9)، وسينهار الإسلام المثالي، ويبقى الإسلام التاريخي للذكرى والدراسة فقط كما حصل للمسيحية(10)، ولكن يبقى منه أنه تجربة تاريخية علينا الاستفادة منها(11). لأنه ظاهرة تاريخية طرأت على المجتمعات البشرية، وهو مثل الظاهرة الاقتصادية، أو الظاهرة السياسية، أو كغيره من الظواهر الاجتماعية لا يجب أن ننظر إليه على أنه ظاهرة فريدة من الأديان(12).
كما ينبغي أن نعلم -بنظر أركون- أن الإسلام كأي عقيدة دينية أو غير دينية ما هو إلا نتاج القوى المحسوسة التي تشكله عقائدياً وأيديولوجياً(13). “إنه نتاج الممارسة التاريخية للبشر، وبالتالي فهو يتطور ويتغير، إنه يخضع للتاريخية مثله مثل أي شيء على وجه الأرض، إنه ناتج عن الممارسة التاريخية لفاعلين اجتماعيين شديدي التنوع.. كما أنه ناتج عن فعل الشروط التاريخية الشديدة التعقيد عبر الزمان والمكان”(14).
وعلى ذلك فمن الخطأ أن نؤقنم قيم الإسلام فننظر إليها على أنها حقائق مطلقة، ومن الخطأ أن ننتزعها من مشروطيتها التاريخية(15)، لأن الإسلام رسالة موجهة إلى أناس بأعيانهم في القرن السابع الميلادي، ولذلك نجد فيها ظواهر ميثية تتناسب مع ثقافة ذلك العصر كالجنة وإبليس والشياطين والملائكة والطوفان وعمر نوح وغير ذلك، وهي اليوم بعيدة عن التصورات الحديثة، وليست لها الدلالات ذاتها التي كانت موجودة في ذلك العصر(16).
وهو ما يعني أن الارتباط بالدين مشروط بالحالة التاريخية التي يعيشها المجتمع أو الفرد، فالمثقف المسيحي كان يؤدي كل طقوس دينه حتى القرن التاسع عشر، ثم تحرر منها بعد الثورة التنويرية والثورة الصناعية، وهذا ما يتعرض له المسلم اليوم (17).
وهنا يرى أركون ومترجمه هاشم صالح أن تحقيق الإسلام لمهمته الروحية قد يحصل دون أن تؤدى الطقوس والشعائر بالضرورة(18)، ولذلك يجب تحرير الناس من العقلية الشعائرية(19)، “فليس من الضروري أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، ذلك أن الصلاة مسألة شخصية في الإسلام كما في الديانات الأخرى”(20).
ولكي يتحقق ذلك لابد أن نخرج من الدائرة العقائدية والمعيارية للإسلام الأرثوذكسي(21)، وإعادة تحديد الإسلام بصفته عملية اجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى..
إن الإسلام الشائع اليوم بنظر أركون هو الإسلام السني الأرثوذكسي؛ وهو ليس إلا تـنظيراً دوغمائياً جاء نتيجة سلسلة من الأعمال المنجزة تاريخياً(22)، ونفس الشيء يقال عن الإسلام الشيعي(23)، فلا يوجد إذن إسلام حقيقي “لقد خُرِّب تاريخ الإسلام الأولي وأُفسد إلى الأبد”(24)، وما قُدّم إلينا ما هو إلا الإسلام الرسمي السلطوي(25).
و”تغيرت معالم الإسلام الأساسية، وملامحه المحددة، وسماته الذاتية، وصفاته الخاصة، وحلت بدلاً منها معالم أخرى مخالفة تماماً، ومناقضة كلية، ومضادة على الإطلاق، واستُبدلت بالمعالم الأساسية للإسلام معالم أخرى خاطئة فاسدة ودخيلة”(26) “وانزلق الإسلام إلى مهوىً خطير، وانحدرت الشريعة إلى مسقط عسير”(27).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسلام وملحمة الخلق الأسطورة؛ تركي علي الربيعو. وجدل التنزيل لرشيد الخيون ص:74-75.
(2) رب الزمان؛ سيد القمني ص:168.
(3) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني لأركون ص:108 ونافذة على الإسلام ص:114 وانظر: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة؛ طيب تيزيني ص:113 وانظر الإسلام بين الرسالة والتاريخ عبد المجيد الشرفي ص:26.
(4): نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي؛ محمد شحرور ص:348.
(5)نافذة على الإسلام؛ أركون ص:171.
(6)قضايا في نقد العقل الديني؛ أركون ص:326.
(7) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؛ أركون ص: .169
(8) قضايا في نقد العقل الديني؛ أركون ص:194.
(9) المرجع السابق ص:60.
(10) المرجع السابق ص:60 وص:328-318.
(11) الخطاب والتأويل؛ نصر حامد أبو زيد ص:227.
(12) مجلة رسالة الجهاد؛ أركون عدد 40، وانظر: مفهوم النص؛ أبو زيد ص 16.
(14) قضايا في نقد العقل الديني؛ أركون ص:174.
(15)نافذة على الإسلام؛ أركون ص:170.
(16)الإسلام بين الرسالة والتاريخ؛ عبد المجيد الشرفي ص:45.
(17)قضايا في نقد العقل الديني؛ أركون ص:28.
(18) المرجع السابق ص:36.
(19) المرجع السابق ص:329.
(20)نقلاً عن عبد الرزاق هوماس؛ القراءة الجديدة في ضوء ضوابط التفسير ص:169.
(21) تاريخية الفكر؛ أركون ص:217.
(22) المرجع السابق ص:53.
(23) المرجع السابق ص:84.
(24) تاريخية الفكر العربي الإسلامي؛ أركون ص:52.
(25) النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة؛ طيب تيزيني ص:167.
(26) معالم الإسلام؛ محمـد سعيـد العشماوي ص:8.
(27) معالم الإسلام؛ محمـد سعيـد العشماوي ص:132.