صرخة من دار القرآن ذ. إبراهيم أبو الكرم

لماذا يضيق مجال الحرية عن جمعيات دور القرآن ويتسع ليشمل جمعيات تدافع عن الإلحاد والشذوذ وتعطيل أحكام القرآن؟ الديمقراطية!! 

التسامح!!
السلام!!
حرية التعبير!!
الحوار الحضاري!!
تنوع الثقافات!!
نبذ القمع!!
نبذ التطرف والتعصب!!
أسماء تفرزها السياسية العالمية في عصرنا، ظاهرها يبشر بالخير للجميع، ويضمن الحياة السعيدة لكل العالم، لكن الواقع يكذب ذلك، وتبقى تلك الأسماء تحمي واضعيها، وتضمن استمرار ثقافتهم، ففي ظل هذه الأسماء تسيل أودية من الدماء لم تسل في زمان من الأزمان، وأصبح عصرنا أكثر دموية، وأكثر قمعا وجاهلية من كل عصر مضى، والذي يحز في القلب، ويملأ الصدر أسفا أن مسرح هذه الأحداث قد اتخذ الأرض الإسلامية خشبة له دون غيرها من بلاد الغير، وتستمر الدول الغربية في نشر تلك الأسامي المغشوشة والتبجح بها، لا لحماية الناس عامة، بل لحماية مصالحهم في بلاد المسلمين، وكسب استئمان منهم، ويثق الكثيرون من المسلمين في تلك الكذبة، فتسعى دولنا مخيرة أو مجبرة في نشر تلك المفاهيم، والجري وراء تحقيقها، فنرى الحرية مشرعة أبوابها، لا حرج على أحد في شيء، فالكنائس تستقبل من يأتيها في بلداننا، واليهود يمارسون نشاطهم أينما كانوا، والشواذ يأتمرون هنا وهناك من بلاد المسلمين، ويتحدثون بكل أريحية عن إنجازاتهم وحقوقهم زعموا، وحانات الخمر، وكازينوهات القمار، ودور الزنا، تستقبل كل يوم روادها، والمهرجانات تقام وتحصد معها الملايين من الشباب والشابات، والمنظمات الحقوقية تأخذ على عاتقها الدفاع عن حقوق الناس، وتبقى فئات من المجتمع المغربي قد قمع صوتها، وصودرت حرياتها في قراءة كتاب ربها، وحرمت من دور القرآن ونشر العلم، وفي هذه الظرفية العصيبة التي تمر منها الدول العربية، وحين تتعالى الأصوات في الميادين والساحات من أجل مطالب خبزية بالأساس، تنبعث همسات أطفال ونساء ورجال طالما تغنت أصواتهم بكتاب الله في أرجاء دور القرآن، وطالما استأنست مساجد المملكة بأصواتهم في رمضان وفي غيره. وأهتبل فرصة تعالي الأصوات بالمطالبة بالحقوق لأقول هذه الكلمات:
لقد طارت سمعة بلدنا في الأقطار باعتنائه بحفظ القرآن منذ القديم، ومازال ولن يزال تنتج بطنه أفواجا من حفظة القرآن، فما باله اليوم أجهض هذه الولادة، في زمن يعج بشباب منفصم في شخصيته، بعيد عن هويته، مفرط في دينه، إنه قد آن الأوان لمعالجة هذا الرتق بتكثير سواد الحفظة ليصلح مجتمعنا، ألم يقل إمامنا مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، فما أصلح القوم الأولين إلا القرآن. إن إغلاق دار القرآن يعد جرما في حق آلاف من الأطفال والرجال والنساء، وغصبا لحقوقهم.
سيحفظ التاريخ قرار الإغلاق المشؤوم، وسيبقى ذلك وصمة عار على جبين تاريخ بلدنا، فإذا كانت الديموقراطية تقتضي الحرية لكل المواطنين في ممارسة حياتهم العامة كما يشاؤون، فلماذا تصادر دور القرآن التي تعلم الدولة بأجهزتها أن عملها لا يعدو تعليم القرآن الكريم وتجويده، وتدريس المتون العلمية الخاصة به، ومحو الأمية، وتقديم الدعم المدرسي للتلاميذ.
إن إغلاق هذه الدور يعتبر فكرة شيطانية تستجيب ومطالب بنود بروتكولات الصهيونية التي تستهدف في الصميم محاربة دور العلم والوعي الديني، وهي خطة أشبه بخطط المستعمرين لبلاد المسلمين، كما فعل التتار في المشرق الإسلامي، وكما فعل الروس في الدول التي تبنت الإسلام داخلها، وليس بعيدا عنا مخطط المستعمر الفرنسي في محاربة المدارس الدينية وتحويلها إلى مدارس بمقرر يوافق مآرب فرنسا بدل إغلاق هذه المدارس، والدرس التركي لايزال ماثلا في التاريخ، حيث أقدم كمال أتاتورك لتثبيت علمانية البلاد على إغلاق المدارس القرآنية ومحاربة أي إشارة إلى الإسلام، لمحو هوية البلاد الدينية.
ولنترك التلميح للحظات ولنقل بصراحة مادام عصرنا عصر حرية التعبير: إن قادة الشأن الديني في المغرب ذوي أيديولوجيات معينة أرادوا أن يقضوا على أي مؤسسة لا تخدم مذهبهم، فالزوايا والأضرحة تنال من وزارة الأوقاف ملايين الدراهم لبنائها وتزيينها واستمرار مواسمها، بينما يكون التوقيف والإغلاق من نصيب أي مؤسسة لا تعمل وفق وجهتهم، والتي يجب أن تستحق من الدعم والتشجيع ما لا تستحقه تلك الأضرحة، وذلك لما تقوم به من تنوير الناس في دينهم، وتعليمهم كتاب ربهم.
لقد قمت بزيارة عدة دور للقرآن في مدن كثيرة، واطلعت على برامجها التي تعمل عليها ومقرراتها، ولنقم بجولة قصيرة حول ما تقوم به دار القرآن:
– الحفاظ على وحدة المسلمين واجتماعهم على القرآن، وصيانة الوحدة الوطنية لأبناء المغرب، بعيدا عن التفرقات الحزبية والعرقية التي تكرس مفاهيم التمييز والتفرقة.
– الحفاظ على الأمن، وذلك من خلال دعوة الناس إلى إصلاح الأفراد بداية لإصلاح المجتمعات، لا كما يتصوره الكثيرون من إصلاح الهرم قبل القواعد.
– التعلق بأهداب إمارة المؤمنين والتي لا تتم إلا ببيعة صادقة للأمير، وتعد الإمارة صراطا تزل فيه أقدام كل المدعين الزاعمين حب الملك، والسمع والطاعة له، بعيدا عن الادعاءات التي تبررها المصالح السياسية ويكشف زيفها الوعي الديني.
– الدفع بمغربنا نحو ركب الدول المثقفة، وذلك من خلال المساهمة في تقليص نسبة الأمية، والتي تخصص لها دور القرآن مجموعة من المدرسين، وفتح أبواب مكتباتها في وجه طلاب الجامعات وغيرهم، لتثقيف الشباب وفتح أعينهم على المكتبة العربية والإسلامية.
– تأطير أئمة المساجد، ففي الوقت الذي تعاني فيه مساجدنا من ندرة أو انعدام مدرسين قائمين بمهمة تدريس القرآن وتجويده في مساجد الأحياء، وتبقى وزارة الأوقاف عاجزة عن تحقيق هذا المطلب على الرغم من تشكي كثير من الناس من ذلك؛ تأتي دار القرآن لتقوم بهذه المهمة. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
– تهييء أئمة المساجد، وأمر ذلك يظهر في شهر رمضان حيث يكثر الطلب على أبناء دور القرآن لإمامة الناس في المساجد داخل المملكة وخارجها.
– إنقاذ الشباب والشابات من التسكع في الشوراع، ومحاربة الممارسات غير الأخلاقية التي تهدد شبابنا المعاصر، وحسب اطلاعي فقد أنقذت دار القرآن مئات الشباب الذين أدت بهم ظروفهم الخاصة إلى تعاطي المخدرات، والفساد الأخلاقي، وتخريب المجتمع، فصفت أفكارهم في ظل دار القرآن، وزكت أخلاقهم بفضل الله ثم بمجهود هذه الدور التي تعمل على إصلاح الأخلاق وتزكيتها، ومحاربة التخريب والفساد.
– الدعوة إلى الاتزان والوسطية، فالعالم يعاني من انتشار الفكر الإرهابي الذي يتخذ الإسلام مرجعا له والإسلام بريء كل البراءة منه، وتنفق الأموال الطائلة للقضاء على هذا النوع من الأفكار الهدامة الداعية إلى سفك الدماء، وحينما نؤمن أن العنف لا يولد إلا العنف، ونعلم أن الحوار ومخاطبة الفكر بالإقناع أنجع طريقة وأقصرها نحو إرجاع كثير من الشباب ذوي عاطفة دينية غير مبنية على علم صحيح، نجد دار القرآن تهتف بمنهجها المعتدل المتخذ من القرآن والسنة أساسا لها بفهم سلف الأمة: الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء الأجلة أمثال عالم المدينة مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، وتعمل دار القرآن على إرشاد هؤلاء الشباب ذوي الحماسة المفرطة، وتهذيب أفكارهم، ومقارعتهم بالحجة الصحيحة والفهم السليم.
إن دار القرآن لم تكن قط في تاريخها ضرة للمساجد، فهي لا تعدو أن تكون مكملة لمهامها، ومعاونا لها في إيصال رسالتها، خاصة في زماننا الذي تعاني فيه مساجدنا من قلة الاعتناء في تنظيمها ونظافتها، وأدهى من ذلك وأمر إغلاقها فور قضاء الصلوات الخمس، وكان حقها أن تفتح على طول النهار، وأن تخصص الوزارة فيها حلقا للقرآن وتعليم التجويد، ولنقم بعرض خاطف لبعض دور القرآن المعروفة في التاريخ الإسلامي والتي كانت تؤدي خدمتها إلى جانب المساجد:
فقد أوقف علاء الدين السنجاري دارا القرآن عند باب الناطفانيين شمال المسجد الأموي بدمشق.
وفي البداية والنهاية في حوادث سنة سبع وستين وسبعمائة أن نائب السلطنة أمر بفتح دار القرآن التي وقفها الشريف التعاداني إلى جانب حمام الكلس، شمالي المدرسة البادرائية، وعمل فيها وظيفة حديث وحضر واقفها يومية قاضي القضاة تاج الدين السبكي انتهى والله أعلم.
ولا ننسى أن الإمام المقرئ أبا الخير بن الجزري صاحب النشر أقام دارا للقرآن بالشام وكان يقرئ القرآن بها إلى أن مات ودفن بها.
وأحيل على كتاب الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي فقد سرد هناك سلسلة من دور القرآن في العالم الإسلامي.
وأختم فأقول: إن الإقدام على إغلاق هذه الدور كان قرارا ظاهر الحيف والظلم، لشريحة واسعة من الناس مختلفي الأعمار، بل كان جريرة تجاه كتاب الله تعالى الذي كان يقرأ في رحابها صباح مساء، ونهيب بمسؤولينا إعادة النظر في ذلك القرار الجائر، الذي لم يستند لأي مسوغ كيفما كان نوعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *