الإجماع على اعتبار السنة النبوية مصدرا ثانيا من مصادر التشريع ليس بدعة شافعية.. وجمع الصحيحين ليس تصرفا «أرثوذكسيا»؟!

يرى العلمانيون -بدرجات مختلفة- أنَّ أحاديث الصحيح تراث أكثر من أن تكون وحياً، وعند الحديث عن رؤى العلمانيين لأحاديث الصحيحين فإنها لا تنفك عن منظومة الفكر العام، والرؤية الشاملة للعلمانيين للسنة، وإن كان الصحيحان هما المحط الأول والأولى لأنظارهم؛ كونهما مما تلقته الأمة بالقبول، وليس لطائفة أن تدعي تملصها من الاعتراف بأيّ من أحاديثهما، ورد دعاوى الحداثيين بتضعيف الحديث أو رده.
وقد ذكر الفيلسوف الجزائري الهالك محمد أركون -مسؤول الدِّراسات الإسلامية في جامعة السوربون بفرنسا سابقا- في معرض ردّه على من يصفهم بالمتشددين أنهم «يعتقدون أنَّ التُّراث (السُّنَّة) ينبغي أن تتغلب على كُلّ بدعة». واعتبار السُّنَّة تراثاً يتطلب تجريدها من سماتها الخاصة التي جعلت منها مصدراً ثانياً للشريعة الإسلامية. ويستلزم من ذلك اعتبار السُّنَّة مجرد خطاب أو نص ظهر في التَّاريخ لمهمة خاصة ليس لها طابع الديمومة1.
واعتبر أن تدوين السُّنَّة إرهاصاً من إرهاصات تشكل «أرثوذكسية» على حد تعبير أركون، حيث يقول: «ثُمَّ راحت الأرثوذكسيات الكبرى تتشكل تاريخياً عن طريق تأليف كتب الحديث أو الصحاح، أقصد الأرثوذكسية السنية والأرثوذكسية الشيعية والأرثوذكسية الخارجية»2.
ومن الواضح تأثر أركون واستخدامه ألفاظاً خارجة عن قاموس العربية أو علوم الحديث، وإقحام مصطلح «الأرثوذكسية» بطريقة يمجها البحث العلمي، وسعيه إلى وضع السنة في موضع حجب الحقائق، وإقصائها عن مصدرية تبليغ أسس العقيدة الصافية، واتهامها بأنها: «خطاب أحادي قائم على الحصر والاستبعاد والإدانة والإقصاء»…3.
ولذلك لم يتوان الحداثيون عن اعتبار مصدرية الحديث النبوي إحدى شطحات الشافعي الذي -حسب زعمهم- وضعها مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي، كما وصفه أركون بأنه ذو عقل «ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية (Corpus) ناجزة ومغلقة على ذاتها، نقصد بذلك القرآن والحديث»4.
لذلك فقد وُضع الصحيحان -كما القرآن والسنة- على محك النظر والنقد والتفكيك ليؤول هذا النَّصّ في النهاية إلى مجرد خطاب يمكن نقده ونقضه، «ففي نقد النَّصّ تستوي النُّصّوص على اختلافها…(و) هنا يمكن الجمع بين النَصّ الفلسفي والنَّصّ النبوي»5، وأن ما أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- من العادات والتقاليد ليست وحياً؛ لأنها ليست تبليغاً من عند الله وإنما هي «مواضعات النظام الاجتماعي السائد» -على حد تعبير علي حرب- وبالتالي ينبغي أن يُترك ما أقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذا القبيل؛ ونترك نحن أنفسنا لمواضعات النظام السائد في هذا الزمان، حتى لو تعارضت مع ما كانت عليه في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-وأصحابه6.
وتتأكد مزاعم تراثية نصوص الصحيحين على لسان نصر حامد أبو زيد، الذي ربط بين دراسة النَّصّ القرآني وبين النَّصّ النبوي في بيان منزلة السُّنَّة، حيث ذكر أنَّ «النَّصّ منذ لحظة نزوله الأولى مع قراءة النَّبيّ له لحظة الوحي تحول من كونه نصاً إلهياً وصار فهماً إنسانياً، لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل… ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرَّسُول للدلالة الذاتية للنص».
ولا يكترث نصر بالقول عندما يؤكد أنَّ مصطلح التأويل «بدأ يتراجع بالتدريج، ويفقد دلالته المحايدة، ويكتسب دلالة سلبية، وذلك في سياق عملية التطور والنمو الاجتماعيين»..7
وهذا التصريح يحتوي على مغالطة واضحة، وبدعة فاضحة، لم يكلف نصر نفسه عناء البرهنة عليها وهي أنَّ السُّنَّة تأويل للقرآن الكريم، سواء كان هذا التأويل تخصيصاً لعامه، أو تقييداً لمطلقه، أو تفصيلاً لمجمله، فكيف يتراجع ذلك التأويل تدريجياً عنده!
وكيف يستقيم في ذلك ما أضافته السنة من أحكام شرعية تبيّن ما لم يذكره القرآن من تشريعات أجمع علماء الأمة –فضلاً عن عوامها- أنها من الدين!؟8
قد يكون التأويل مدخلاً إلى النقد على حد ما مورس في تأويل الكتب الدِّينيَّة في اليهوديَّة والمسيحيَّة تحت اسم الهرمنيوطيقا9 (Hermeneutics) والذي انتهى المآل بالمؤولين إلى تأكيد تاريخية النَّصّ المُقدَّس10 ومنه نقده وإقصاؤه.
ـــــــــــــــــــــ
1- محمَّد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص102.
2- المرجع السابق، ص:246.
3- علي حرب، نقد النَّصّ، ص17.
4- محمَّد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص:65 و69، و نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي، ص41.
5- علي حرب، نقد النص، ص11.
6- المرجع السابق، ص38.
7- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، ص174.
8- انظر الشافعي، محمد إدريس، الرسالة، ص44، بتصرف.
9- الهرمنيوطيقا: مجموعة من القواعد المتبعة لدراسة اللاهوت، وفهم النصوص الدينية، والعمل على تأويلها بطريقة خيالية ورمزية بعيدة عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف ما وراء النص باعتباره حجاباً يخفي من المعاني غير ما يُفهم من ظاهره.
10- يونس صوالحي، محاولات تفكيك السنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *