لا خلاف بين الأئمة في مشروعية الوقف وأنه قربة إلى الله تعالى

الوقف من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، وهو مندوب الفعل، سواء كان وقفاً على جهة من الجهات العامة، كالفقراء، وطلبة العلم، أو وقفاً على القرابة والذرية؛ دلَّت على مشروعيته نصوص عامة من القرآن الكريم، وفصَّلته أحاديث من السنة المطهرة، وعمل به الصحابة رضي الله عنهم، وأجمعت الأمة من السلف والخلف على مشروعيته. ومما يدل عليه من القرآن الكريم: قول الله جل وعلا: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
وقد جاء في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحبَّ أمواله إليه بَيِرُحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية: «لن تنالوا البر…» قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَخْ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال: أفعلُ يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) صحيح البخاري، رقم الحديث 1461.
ويدل عليه أيضاً عموم الآيات التي تحث على الإنفاق، وبخاصة صدقة التطوع، وقد تكررت في القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا المقام، منها على سبيل المثال لا الحصر: قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْـمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْـخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الحج:77]. وغيرها من آيات الحث على البر التي تشمل الوقف باعتباره من أمثل وجوهها وأبوابها.
وأما نصوص السنة المطهرة الدالة عليه المرغبة فيه فكثيرة: حيث ثبت الوقف بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره بما ورد في شأنه من أحاديث عدة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات» البخاري2853. وحديث وقف عمر رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث»البخاري2620، وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح تعليقا على هذا الحديث: (وحـديث عمـر هـذا أصل في مشـروعية الوقف). وخبر شراء عثمان بن عفان رضي الله عنه بئر رومة ووقفه لها. مسلم:2/1255.. وحديث وقف طلحة بن عبدالله رضي الله عنه، وأَمْرِ الرسول صلى الله عليه وسلم له بذلك. البخاري1461. ويستدل له كذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة الجارية، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» مسلم.
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم للوقف فقد ابتدأ بمسجد قباء، ثم المسجد النبوي، كما أوقف صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط لرجل من اليهود يدعى مخيريق، قتل يوم أحد، وكان قد أوصى بأنه إن أُصيب فأمواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله.
وأما إقراره فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» مسلم 983.
أما الإجماع: فقد صرّح غير واحد من أهل العلم بأن إجماع الصحابة منعقد على صحة الوقف، فقد ذكر صاحب المغني 8/186 «أن جابراً رضي الله عنه قال: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف»، وهذا إجماع منهم، وقد اشتهر ذلك ولم ينكره أحد، فكان إجماعاً».
وقد ظهر اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم على مشروعية الوقف، حتى إنهم رضوان الله عليهم سارعوا في الوقف رغبة في الثواب العظيم من الله تعالى، قال الشافعي رحمه الله: بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات». وكان الشافعي رحمه الله يسمي الأوقاف الصدقات المحرمات.
ومذهب جمهور العلماء يؤكد الإجماع على الوقف منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة والتابعين وعلى مر تاريخ الأمة الإسلامية.
ولذلك؛ كان القياس أحد أدلة ثبوت الوقف: حيث «اتفق الفقهاء على أن بناء المساجد وإخراج أرضها من ملكية واقفها أصل في وقف الأصل، وحبس أصولها، والتصدق بثمرتها، فيقاس عليه غيره، ويلاحظ أن القليل من أحكام الوقف ثابتة بالسنة، ومعظم أحكامه ثابتة باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف». الأحكام الفقهية والأسس المحاسبية للوقف، د. عبد الستار أبو غدة ود. حسين شحاتة، ص:48.
ولذا «أقرَّ جمهور العلماء من السلف ومَنْ بعْدَهم بأن الوقف جائز شرعاً»، وفي هذا يقول ابن قدامة رحمه الله: «وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف» المغني 8/185. ويقول الإمام أحمد رحمه الله: «من يُرِدْ الوقف، إنما يريد السنة التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها أصحابه».
الشاهد من ذلك أنه لا خلاف بين الأئمة الأربعة في أن الوقف مسنون، فضلاً عن مشروعيته، وأنه قربة إلى الله تعالى، بل إنه من أحسن القرب التي يُتَقرّب بها إلى الخالق سبحانه وتعالى.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: «اعلم أن ثبوت الوقف في هذه الشريعة وثبوت كونه قربة أظهر من شمس النهار» السيل الجرار 3/313.
وخلاصة القول في حكم الوقف: أن جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية -إلا رواية عن أبي حنيفة وزفر- يقولون إن الوقف جائز شرعاً -بل مندوب إليه-، وإن أصل مشروعيته ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *