اللغة تحمل ثقافتها بين جوانحها، وإذا تهجنت كما تَهجَّن أولائك، فَقَدَتْ أصالتها، وفقدت معها ثقافتها، مما يؤدي إلى فقدان الهوية، فيُفقد أي أمل في حضارة عربية القالب، إسلامية الروح، ثم يتوالى مسلسل الفقدان والضياع إلى أن نفقد ذواتنا.
قال الأولون: “الألفاظ قوالب المعاني”، ونعم ما قالوا! وما أعمق ما قالوا! لقد قالوا كلمة ما تأملها المحدثون، وحتى لو تأملوها، لمج بنو علمان منهم ما فهموه من تأملها، كما يمج الحنظل، لا لشيء، وهو أفظع شيء، إلا لأنهم هم الممجوجون، مادامت أجسادهم عربية، وأرواحهم مستغربة، نخرتها العجمة، حتى تآكلت من جراء غربة الهوية، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا هم رضوا بأصل انتمائهم، ولا “الآخر” رضي بضمهم إليه، حسب ما توهموه منه أنه فاعله تجاههم.
“الألفاظ قوالب المعاني”: إنها خلاصة حضارية في قالب لغوي.
فكيف ذلك؟
إن اللغة تحمل ثقافتها بين جوانحها، وإذا تهجنت كما تَهجَّن أولائك، فَقَدَتْ أصالتها، وفقدت معها ثقافتها، مما يؤدي إلى فقدان الهوية، فيُفقد أي أمل في حضارة عربية القالب، إسلامية الروح، ثم يتوالى مسلسل الفقدان والضياع إلى أن نفقد ذواتنا.
أهذا ما يصبو إليه أولائك المهاجين؟ باسم التطور والتقدم، وباسم الانفتاح والتحضر.
ألا يدري الهجناء أن التطور لا يعني العجمة الثقافية، والانفتاح لا يعني الاستلاب الحضاري، إنه لا يعني الذوبان في الآخر، ولا يعني الانسلاخ عن الأصل.
إنه يعني النّدية، بل والتفوق، بالنظر إلى خصائص لغتنا، ومضمون تاريخنا. إلا أن الأمر مدروس ومخطط له، إنها مؤامرة دُبرت ليلا ونهارا، سرا وجهارا، أتدرون ماذا يقع للأمّ إذا هجرها أبناؤها؟ ستضيع وتفقد أساس وجودها. يقول الدكتور عبده الراجحي في كتابه (التطبيق النحوي ص:6): “والمتتبعون لتاريخ العربية في العصر الحديث، يعلمون أنها تعرضت لخطة مدروسة، تستهدف القضاء عليها”.
لماذا حارب ويحارب الغرب والعلمانيون اللغة العربية؟
لأنها، كما قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم ص:203): “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي يتميزون بها”.
وكما قال الشيخ أبو النعمان الدراري: “..اللغة – كما قال بعض أهل العلم: هي قاعدة فهم الدين، والمدخل إلى معرفة الشرائع، وباب الإسلام”.
إن بني علمان لا يريدوننا أن نتميز عن غيرنا، بل أمنيتهم أن يصهرونا في بوتقة نخرج منها بدون لغة ولا هوية ولا دين ولا ماض ولا تاريخ ولا حضارة، منسلخين من كل شيء، وعالة على الأمم في كل شيء، حفاظا على شعور دول الغرب، من أن تبور سلعتهم التي يسوقون هذه الأيام، والمسماة بالعولمة، كل شيء “يعولم”، إلا العربية والإسلام ، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: “لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ” النحل:103، و يقول سبحانه: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”.
تأمل هذه الواقعة التي أوردها أحد الصحفيين في إحدى الجرائد، قائلا: “عندما انتقل جوق الجيش الأحمر إلى الدار البيضاء ليعطي عرضه في الميغاراما، كان لابد أن يلقي “ساجيد” عمدة المدينة كلمة ترحيب، وطبعا كان يجب أن يختار الفرنسية، بعده صعد واحد من اللجنة المنظمة، ورحب بالجوق، طبعا بالفرنسية. وعندما وقف رئيس الجوق الأحمر ليقدم فرقته، لم يتكلم بالروسية ولا بالإنجليزية ولا بالفرنسية، بل بعربية فصيحة لا يتكلمها حتى وزير الثقافة عندنا”. فانظر إلى مبلغ تمكن الاستغراب من نخبتنا… موسيقى ولغة فرنسية!
قال بكر بن عبد الله أبو زيد في مؤلفه (أدب الهاتف): “اللغة العربية من شعائر الإسلام، والتكلم بها حفظ لشعائر الإسلام، فيجب حفظ هذه الشعيرة، وكف الدخولات عليها، ولذا فاحذر تلك الألفاظ المولدة، التي يأباها اللسان العربي أشد الإباء، والشريعة ناهيةٌ عما يفسد لسان العرب، وعن التعلق بلغة الكافرين والأعجميين، وخلطها بلغة الضاد، لسان المسلمين” ص:26-25.
إن الأعاجم يناضلون من أجل لغتهم، وبنو علمان يحاربون لغتنا، مع أنهم محسوبون عليها، يقول الصحفي المذكور في المقال نفسه: “حقيقة لا أعرف لماذا يفضل هؤلاء المسؤولون المغاربة إخجالنا أمام الأجانب باحتقارهم للغة العربية، يتصورون أنهم سيصبحون أكثر أهمية إذا تكلموا أمامهم بالفرنسية، مع أننا شاهدنا كيف أن “جاك شيراك” نفسه غادر قاعة اجتماعات بـ”بروكسيل”، لأن عضوا فرنسيا في البرلمان الأوربي تكلم بالإنجليزية، ولم يعد “جاك شيراك” إلا عندما قبل العضو تقديم مداخلته بالفرنسية، هم يدافعون عن لغتهم ويتعصبون لها، في حين نحن نحتقر لغتنا ونخجل من الحديث بها أمام الأجانب”اهـ.
قال الفاروق رضي الله عنه: إن ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله، وأنا أقول ناسجا على منواله: إن ابتغينا العزة بغير العربية أذلنا الله، لأنه لا سبيل لفهم القرآن بغير اللغة العربية، كما أن الألفاظ قوالب المعاني، ولا يمكن استيراد لغة، واستعمالها في التواصل اليومي، دون أن نستورد معها ثقافتها وفكرها وأخلاقها.
قال عمر عبيد حسنه: “ذلك أن اللغات الأجنبية يمكن أن تعتبر من أخطر معابر الغزو الثقافي إلى الأمة، عند من يدرك علاقة التفكير بالتعبير، أو علاقة التعبير بالتفكير.
بل لعل ذلك يشكل إحدى السبل الخطيرة لمحاصرة الأمة، وشل نموها وامتدادها واستمرار عطائها، الذي سوف يُحدِث بالتالي، أخطر الإصابات لعالم الأفكار والقيم، ويُفقِده القدرة على تمثلها، وحسن التعامل معها” (في شرف العربية ص:11).
قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم ص:206): “وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء، أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه: فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم”.
قال الصحفي المذكور في المقال ذاته: “وقبل أسبوعين، كم خجلت مكان مدير مسجد الحسن الثاني عندما سمعته يعطي تصريحا باللغة الفرنسية لنشرة الأخبار بالعربية في التلفزيون، حول المؤسسة التي يشرف عليها، كما لو أن الرجل يدير كنيسة مسيحية من الدائرة الثامنة بباريس، وليس مسجدا يوجد في الدار البيضاء”.
اُنظر أيها القارئ الكريم، كيف كنا وكيف أصبحنا، كيف كان السلف الصالح، وكيف أصبح بعض من خلفهم!
قال شيخ الإسلام: “ولهذا كان المسلمون المتقدمون، لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغةُ أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان، ولغةُ أهلهما فارسية، وأهل المغرب، ولغةُ أهلها بربرية: عوّدوا أهل هذه البلاد العربيةَ، حتى غلبت على هذه الأمصار: مسلِمهم وكافرِهم” ص:206
وجاء في كتاب (ابن رشد الحفيد:حياته-علمه-فقهه ص:73) لمؤلفه: حمادي العبيدي: “وكانت اللغة العربية هي وحدها وسيلة المعارف على اختلاف ألوانها، وسادت جميع اللغات الأخرى، حتى عند غير المسلمين، فقد كان اليهود يؤلفون بها، وكان النصارى يستعملونها في أحاديثهم اليومية (…) ويذكر أن شباب النصارى كان يتباهى بمعرفته اللغة العربية وآدابها، ويقبل في شغف على مؤلفات علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم، ولا يترك من ذلك شيئا، بما فيها مؤلفات الفقه، وكان هذا كله يستبد بإعجابه”.
إذن، فما الحل؟ وكيف يمكن استرجاع مجد اللغة العربية؟ هذا ما سنتطرق إليه في العدد القادم إن شاء الله.
“كانت اللغة العربية هي وحدها وسيلة المعارف على اختلاف ألوانها، وسادت جميع اللغات الأخرى، حتى عند غير المسلمين، فقد كان اليهود يؤلفون بها، وكان النصارى يستعملونها في أحاديثهم اليومية (…) ويذكر أن شباب النصارى كان يتباهى بمعرفته اللغة العربية وآدابها، ويقبل في شغف على مؤلفات علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم، ولا يترك من ذلك شيئا، بما فيها مؤلفات الفقه، وكان هذا كله يستبد بإعجابه”.