في كثير من الأحيان يكفي عرض المذهب عن الرد عليه، ويغني فساده عن إفساده وذلك لوضوح فساده وتناقضه إذا ما عُرض على الأسس والقواعد المعلومة من الدين بالضرورة. وخصوصاً إذا حاكمنا الموقف العلماني من خلال المآل الذي خلُص إليه في تزوير الصورة الجوهرية للإسلام، ومن خلال التركيبة المنهجية الملفقة والمناقضة في ذات الوقت لمقاصد الإسلام ومراميه.
إن الخطاب العلماني يدرك جيداً أن الأمة الإسلامية والعربية تنتمي إلى حضارة المقدس والإيمان بالمطلق، وأن أي محاولة للتجديد أو للنهوض محكوم عليها بالفشل إذا لم تنطلق من خلال هذين المحورين: الإيمان، والمقدس، إلا أن الصراع كان قد احتدم طوال القرنين الماضيين في بلادنا بين العلمانية الغازية التي تنتمي إلى حضارة المدنس؛ والنسبية والمادية.. وبين حضارتنا وثقافتنا المتشبثة بمقدساتها ومرتكزاتها، ولأن الخطاب العلماني العربي قد تشبع بالحضارة المادية الغازية وشربها حتى الثمالة وهو في ذات الوقت يرغب أن يمسك بزمام المبادرة النهضوية أسوة بالنهضويين الغربيين، ولكن هنا واجهته حضارة قدسية متقاطعة جداً مع المادية النسبية والعدمية، ولذلك فقد وقع في مأزق التصادم بين الانتماء الفكري والثقافي من جهة والانتماء الوطني والقومي من جهة أخرى، ولكي يتخلص الخطاب العلماني من هذا المأزق لجأ إلى محاولة التوفيق بين الثقافة التي استلبته، وبين الحضارة التي أنجبته، وكانت مقدسات هذه الحضارة وعلى رأسها الإسلام هي محور دراساته في العقود المنصرمة، إلا أن الخطاب العلماني العربي بسبب ضعفه في المواد التأسيسية الأصولية والتراثية اللازمة لقراءة الإسلام، وانبتات الصلة بينه وبين مكونات حضارته؛ وفي ذات الوقت ثراؤه بمكتسبات العلوم الحداثية والتفكيكية والألسنية؛ فقد جاءت قراءاته للإسلام أقرب إلى التلفيق والتزوير منها إلى التوفيق والتنوير، والسبب هو أن الخلفية المادية الكامنة وراء القراءات العلمانية المختلفة للإسلام كانت غير متوائمة مع المادة المقروءة، في حين ظلت الأصول القريبة والملائمة للمادة المقروءة متهمة في بنية الخطاب العلماني بتكريس التخلف واللاوعي، ويُنظر إليها بتوجس وحذر وربما بازدراء.
وإذا كان العلمانيون حريصين فعلاً على نهضة الأمة وتقدمها ورقيها كما يعلنون وليس على مصالحهم الشخصية من شهرة ومجد ونجومية، فهل يعتقدون حقاً أن أطروحاتهم العجيبة والغريبة بشأن الإسلام والقرآن -كما رأينا- ستحقق هذه النهضة وهذا التقدم والرقي؟ !
وهل وقف الإسلام في تاريخه عائقاً أمام ازدهار الأمة، وازدهار حضارتها وثقافتها ومجتمعاتها؟ حتى يحتاج الإسلام إلى مسخ أو طمس أو تشويه؟
أم أن الإنسان هو الذي يحتاج إلى إصلاح وتمثل حقيقي لدين الله عز وجل، وتفاعل حقيقي مع كلمات الله جل وعلا؟
ألا يشعر العلمانيون أنهم يتلاعبون بالعقول ويعبثون بالفكر، وأن هذا التلاعب والعبث إذا انطلى على فئة من الناس أو جيل من الأجيال، فإن الزيف لا بد أن يظهر، والخداع لا بد أن ينكشف؟
أي مسلم يمكنه أن يقبل هذا المسخ والتشويه للإسلام باسم الإسلام؟!
بل أي عاقل حتى ولو لم يكن مسلما يمكنه أن يقتنع بأن هذه الأفهام التي تُطرح، والأفكار التي تُعرض موصولة بالإسلام، ومستندةً على نصوصه؟!
إن الإسلام بطبيعته وتكوينه لا يقبل العبث، وهذا ما لاحظه المستشرقون؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم تركنا: “على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”.
فالإسلام واضح ليس فيه غموض، ويسر ليس فيه عسر، ورحب ليس فيه حرج، وهذا مكمن قوته، وسر خلوده، ومظهر عالميته وشموليته، وسبب انتشاره وإقبال الناس عليه.
إن تضييع الوقت في تأويل الإسلام وتحريفه لن يجدي شيئاً، وسوف يزيد من مآسي الأمة وتأخر نهضتها، وخيرٌ منه أن نتوجه إلى العمل الصالح والبناء المثمر، لأن أمتنا ليست بحاجة إلى هدم، فليس لدينا ما يهدم، إن لدينا قواعد متينة، وأعمدة راسخة، وحصون منيعة، وتحتاج إلى بناء وبناءين، وأدوات وعاملين، أكثر من حاجتها إلى خطط ومشاريع ومهندسين.
ومن هنا فنحن لسنا بحاجة إلى المشاريع العلمانية التي تطمس الإسلام، لأنه لم يكن عقبة في وجه التقدم، بل إننا في حاجة إلى عودة صادقة إلى الإسلام وإلى قيادته وفاعليته، ليمارس دوره في ازدهار الأمة وحضارتها كما فعل ذلك من قبل.