المتتبع لأدلة الكتاب والسنة والناظر فيها يتبين له بجلاء أن النصوص الشرعية: شاملة، وثابتة، وعاصمة، وحاكمة، وعملية.
فكونها شاملة أي: متصفة بالشمول الذي يستغرق الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص كما قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
فمما هو “معلوم بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامة داعية جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها لا محالة سائر أقطار المعمور وفي سائر أزمنة هذا العالم” مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور رحمه الله 86.
وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في معنى هذه الآية الكريمة: “قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء”.
وقال مجاهد رحمه الله: “كل حلال وكل حرام”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي؛ وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم” تفسير القرآن العظيم 2/603.
ورحم الله الإمام البخاري إذ يقول: “لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة، فقيل له: هل يمكن معرفة ذلك كله؟ قال: نعم” سير أعلام النبلاء 12/412.
وأما أنها ثابتة أي: أنها لا تتغير في ذاتها(1) ولا تتبدل بخلاف غيرها.
قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله عند تفسيرها: “إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك عذاب يوم عظيم هوله” الجامع لأحكام القرآن 8/319.
ولذا فـ”ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به” الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 22/196.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: “إذا ورد النص من القرآن والسنة الثابتة في أمر ما، على حكم ما… فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان، ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا، في كل زمان وفي كل مكان، وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر ومكان آخر، أو حال أخرى” الإحكام في أصول الأحكام 5/771.
وأما كونها عاصمة أي: لا خطأ فيها وعاصمة للآخذ بها ولذا لم يجعل الله تعالى “العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة” الفتاوى الكبرى لابن تيمية رحمه الله 4/129-130.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين” الفتاوى الكبرى 7/383.
وعليه فـ”الأمور التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم..” شرح الطحاوية لابن أبي العز رحمه الله 515.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: “فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم، من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين، هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.. ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله عليه الصلاة والسلام: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين” شرح الصدور، ضمن الجامع الفريد ص: 593.
وهي حاكمة كذلك ولذا فـ”التأويل لا يقضى به على النص والتوقيف، وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه، ويحمل على موافقته، دون مخالفته” أحكام القرآن للجصاص رحمه الله 3/37.
قال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ).
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “العقل لا يجعل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب أن يقدم ما حقه التقديم (أي: الشرع)، ويؤخر ما حقه التأخير (أي: العقل)؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول” الاعتصام 2/326.
أما أنها عملية أي: تقبل التطبيق والحكم بها بل هذه غايتها والمقصود منها كما قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: “هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته ولم يخصص بذلك في حال دون حال فهو على العموم حتى يخص ذلك ما يجب التسليم له” تفسير ابن جرير 6/436.
وعليه فإذا كانت نصوص الشريعة كتابا وسنة متسمة بهذه الصفات العظيمة، والخصائص المتينة، فكيف نُحَكِّم عليها الأنظار العقلية، أو الأذواق النفسية، أو التجارب الإنسانية.. مع أن هذه الأخيرة وأمثالها محكوم عليها غير حاكمة، ومن تم قرر أهل العلم أن المفتي حقيقة يبني فتاواه على روحها بناء على قاعدة التدليل لا التجريد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها الدليل” إعلام الموقعين 4/ 322-323.
والمقصود أن أهل الزيغ والضلال من العلمانيين والعقلانيين أبو إلا جعل عقولهم القاصرة وأنظارهم الفاسدة الحَكَم الفصل والدليل والبرهان على حد قول الإمام ابن القيم رحمه الله في أسلافهم وفيهم تبعا: “جعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، ثم ردوا متشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم” الصواعق المرسلة 3/990.
وليس هذا بغريب حقيقة فأهل البدع سموا بـ”أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهوائهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها” كما قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله في اعتصامه 2/176.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. لضعف العلم وفساد النظر عند البعض لم يتصورا في هذا المقام الفرق بين الحكم الشرعي (كتابا وسنة)، ومناط الحكم الشرعي، فالأول ثابت، والثاني قد يتغير.