أصيبت كلمة الدين برذاذ من هذه الحضارة المادية كاد يفقدها نصاعتها وإشراقها؛ ويجعلها أشبه شيء بالتحفة الفنية النادرة التي يرغب الإنسان المتحضر في اقتنائها من غير أن يفكر في استعمالها؛ مستغنيا عنها بما ابتكرته المدنية من أدوات.
وقد دعتني هذه الظاهرة الجديدة إلى العمل على تقويم هذا الانحراف وتنظيف معنى كلمة الدين من الطفيليات التي علقت بها وكادت تغطي على بهجتها وتذهب برونقها ومعناها الأصلي يرجع إلى معنى الجزاء ولذلك سمي يوم القيامة يوم الدين ومنه قوله تعالى في سورة الصافات (الآية 53): “أَئِنَّا لَمَدِينُونَ” أي مجزيون عن أعمالنا بما يناسبها، وتأتي بمعنى الطاعة والخضوع وكان ذلك يرجع إلى المعنى الأول لأنه طاعة المقصود منها طلب الجزاء الحسن أو الفرار من الجزاء السيئ وهذا هو معناها في العرف الإسلامي، فإذا قيل إن فلانا متدين أو محافظ على دينه فمعناه أنه يطبق أحكام الدين في حياته لم يتغير هذا المدلول لهذه الكلمة منذ نزل القرآن إلى الآن.
ولكن مدلولها في بعض الأوساط التي أخذت من الثقافة الغربية بنصيب وافر ولاسيما أولئك الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالتملي من الثقافة الإسلامية له معنى آخر زيادة على ما قلناه، فهو بمعنى التحجر والرجعية ومقاومة حرية الفكر وعداوة كل حركة عقلية متحررة.
ومنشأ هذا الفهم أمور:
1ـ التأثر بمعنى كلمة الدين في عصور أوربا فقد كانت تعني عداوة كل تفكير، وكان كل من حاول أن يتحرر من القيود العظيمة التي كانت تفرضها الكنيسة خارجا عن نطاق الدين محكوما عليه بالحرمان يتعرض لأشنع التقتيل والتنكيل؛ وكم سجل التاريخ في ذلك من مئاس وكوارث، وما محاكم التفتيش التي كانت الإنسانية تئن من قساوتها إلا تطبيقا لكلمة الدين في ذلك العصر نتيجة حتمية لسيطرة رجال الكنيسة المتحجرين؛ ولم يستطع قادة التحرير والمفكرون أن يثبتوا أركان المعرفة ويقيموا صروح العلم إلا بعد تضحية عظيمة ذهب أثناءها كثير من رجال الفكر ضحية التحجر والجمود.
من أجل ذلك أخذت كلمة الدين هذا المعنى الوضيع ولم يستطع العلماء والزعماء السياسيون أن يأتوا بشيء جديد إلا بعد تنحية الدين من الحياة وبعد القضاء على سيطرة الكهنوت، وما هذه الحركات الهدامة التي ظهرت في العصر الحاضر وتمكنت من إخضاع بعض الشعوب إلا غلوا في محاربة فكرة التدين وإيغالا في القضاء على العقيدة، وهي تعد رد فعل طبيعي لموقف رجال الدين إزاء حرية الفكر.
فهذا المفهوم لكلمة الدين في أوساط أوربا الثقافية هو الذي يجعل بعض شبابنا ينفرون من هذه الكلمة ويتقززون منها ويحاولون أن لا يكون بينهم وبينها أية صلة.
وما كان هذا المفهوم قط في الوسط الإسلامي، فما كان الدين عرقلة في طريق التقدم ولا مانعا من حرية التفكير بل الذي أثبته التاريخ أن ازدهار المعرفة والعلوم، واطراد التقدم ورقي الفنون كان متوازيا مع انتشار الدين والعمل به وقلما حدثنا التاريخ أن شخصا اضطهد لأجل عقيدته أو امتحن في تفكيره إلا لأسباب سياسية خارجة عن ميدان الدين، وإذن فمدلول هذه الكلمة في العرف الإسلامي لا يدعو إلى نفور فما على شبابنا إلا أن يعكفوا على الثقافة الإسلامية بنفس الروح التي عكفوا بها على الثقافة الغربية، وإذ ذاك يظهر لهم البون الشاسع والفرق العظيم بين مدلول الكلمة في العرف الإسلامي ومدلولها في العرف الكنسي.
2ـ حالة بعض الطرق التي تنسب إلى التصوف والمظاهر التي تقوم بها ناسبة إياها إلى الدين وزاعمة أنها تتفق وروح الإسلام مع أنها ليست إلا مظهرا من مظاهر الوحشية والبدائية مثل ما كان يفعله طوائف عيساوة وحمادشة من أدوار تتقزز لها النفوس البريئة وتدعو الرثاء لأصحابها؛ ولقد استرحنا والحمد لله من تلك المظاهر بفضل العزيمة الصارمة التي أبداها جلالة محمد الخامس في فجر نهضتنا المباركة.
وقضى بها على كل أفاك وأرجع إلى الإسلام كرامته ونفى عنه تلك الطفيليات التي علقت به.
3ـ الأدوار الفظيعة التي قام بها شيوخ الطرق والمشعوذون باسم الدين؛ فإنهم تحالفوا مع الاستعمار بصفة مكشوفة واستغلوا كلمة الدين إلى أبعد الحدود ونسبوا إليه ظلما وجورا ما ليس منه؛ وأوهموا أتباعهم وشيعهم أن الإسلام يطلب منهم الخضوع للحكم الأجنبي بل التضحية لتثبيت قدمه في البلاد؛ ولأجل ذلك في طليعة ما فكر فيه زعماء الحركة الوطنية هو القضاء على شعوذة هؤلاء وكشف خطرهم للعموم وتعريف الناس بأن عملهم لا يمت إلى الإسلام في شيء؛ بل هو أول ما يحاربه الإسلام لأنه عدو الشعوذة والتضليل.
4ـ حالة علماء الدين الفكرية فإنهم باقتصارهم على دراسة الكتب التي ألفت في عصور الانحطاط الفكري للعالم الإسلامي وابتعادهم من كل جديد ووقف حياتهم على هذا القدر من المعرفة جعلهم في واد والحياة الجديدة في واد؛ وأصبحوا يعيشون بأجسادهم في هذا العصر وبأفكارهم في العصور التي ألفت فيها تلك الكتب التي عكفوا على دراستها طيلة حياتهم، وبما أنهم الممثلون الرسميون للإسلام صار الإسلام عنوانا على الجهل والانكماش والغرور؛ كل هذه الأسباب التي ذكرنا وغيرها هي التي نزعت عن كلمة الدين نضَارتها وإشراقها، وجعلت كثيرا من الشباب المثقف يحيد عنها والعلاج الوحيد لهذا الداء الذي وصفناه هو تقديم الثقافة الإسلامية إلى الشباب في حلة جديدة متوفرة على عناصرها الحية النامية ومنزوعا منها كل تلك الطفيليات التي علقت بها، ودعوة علمائنا إلى الخروج من مخابئهم وتنسم نسيم الحياة الجديدة، ودخولهم إلى معترك الحياة وانغمارهم في المجتمعات الشعبية، ثم دعوة الشباب إلى الاهتمام بالثقافة الإسلامية وإعطائها ما تستحقه من عكوف ودراسة.
فبهذا وحده ننفي عن كلمة الدين هذا الطابع الوضيع ونعيد إليها إشراقها ونصاعتها.
عبد العزيز بن إدريس
مجلة دعوة الحق العدد السابع
السنة الأولى جمادى الثانية 1377/يناير 1958