من المقرر عند أرباب التربية والسلوك أهمية الغيرة على ضياع الأزمان، والتي تحذوك يا رعاك الله نحو استغلال أوقاتك، ويتم تحقيق ذلك بمراعاة جملة من المهارات وجماعها ست مهارات:
المهارة الأولى: (أن ينظم الإنسان نفسه وأعماله تنظيمًا صحيحًا على أوقاتها) -في يومها وليلها- فإن التنظيم أو النظام أو حسن تدبير الفعل والقول نحو الأزمنة والأوقات؛ كل ذلك مِمَّا جاء في الآيات والأحاديث التدليل عليه.
يُشير إلى أهمية التنظيم وحسنه وما إليه: ابن سعدي -رحمه الله- بقوله: (من الحزم إذا أراد العبد فعلاً من الأفعال أن ينظر إليه من جميع نواحيه، ويُقدر كل احتمالٍ مُمكن)، فلابدّ من هذه النظرة التي تُورث فكرهُ في كيفية التخطيط للزمان الآتي؛ في يومٍ مقبلٍ عليه، أو سنة آتية إليه، أو شهرٍ قريب منه وما إلى ذلك.
وحسن التدبير للأوقات معناه: أنه لابدّ من مراعاة أمورٍ ثلاثة:
الأمر الأول: (برنامج الإنسان): وهي خطة هذا الكائن الحيّ الذي يصبو إلى تحقيق شيءٍ من ورائها، أو من جرّاء ذلك البرنامج؛ وتكون على خطوات:
الخطوة الأولى: (وضع الأهداف).
والأهدافُ نوعان -يا رعاك الله-:
النوع الأول: (هدفٌ قصير تنتوي تحقيقه في مدة وجيزة).
النوع الثاني: (هدفٌ أعمق وأوسع وأطول تحقيقًا).
فحريٌّ وأنت تنظر إلى الأهداف: أن تفرق بين هدف قريب، وبين آخر بعيد، بين هدف له غاية دنيا وبين آخر له غاية قصوى.
الخطوة الثانية: (التحديد الزمني): وذلك بأن يكون لبرنامجك وخطتك وقت بداية؛ كما أنه لابدّ يشفع بوقت نهاية.
الخطوة الثالثة: (تحديد الوسائل): أي: أن يُحدِّد المرء الوسائل التي تُحدد له هدفه القريب أو غايته البعيدة.
إلاَّ أن هذه الوسائل يُشترطُ فيها: أن تكون شرعية؛ بأن لا تخرج عن الشريعة في مقاصدها وغايتها وسموها وكمالها الذي جاء مسطورًا في كتاب الله ومحرَّرًا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأنت -يا رعاك الله-: تضع الخطط والبرامج بغية النوال الأكبر من الزمن الآتي لك، ولن يكون ذلك كذلك إلا بتوفر أمورٍ ثلاثة:
أولها: (أن يكون البرنامج عمليًا واضحًا).
ثانيها: (أن يكون البرنامج مناسبًا لصاحبه الذي يُريد تطبيقه على ميدان العمل).
ثالثها: (أن يكون البرنامج الذي تقوم به قابلاً للتغيير).
وعندما يُقال بالتغيير في البرامج وأن يكون ذا مرونة؛ فإنَّ المقصود هو تحقُّق شيئين:
الشيء الأول: أن يكون التغيير في جزئيات البرامج لا في ثوابته ولا في أهدافه العامة ومخططاته العامة.
الشيء الثاني: أن ذلك يتعلق بما يعرض للإنسان عند تطبيقه لبرنامجه، وأما أن يُغيَّر هكذا، فهو لا يزال يقلب النظر في هذا البرنامج فيغير فيه ساعةً بعد أخرى حتى لا يبقى له منه شيء؛ فإن هذا خيبة وندامة.
المهارة الثانية: (أن يَحْسِمَ الإنسان الأعمال ويُلقي التسويف عنه جانبًا): فلابدَّ من الحسم للأعمال، فأنت رهين يومك، وأنت وليد ساعتك.
وأصغِ إلى الحسن البصري -رحمه الله- وهو يقول كما في كتاب الزهد لهنَّاد بن السري: ” إيَّاك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك”.
يقول السعدي -رحمه الله- كما في الوسائل المفيدة: “ومن الأمور النافعة: حسم الأعمال في الحال، والتفرغ في المستقبل؛ لأن الأعمال إذا لم تحسم: اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة وانضافت إليها الأعمال اللاحقة فتشتد وطأتها، فإذا حسمت كل شيء بوقته: أتيت الأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل”.
المهارة الثالثة: (أن يلزم الإنسان نفسه بالبرنامج الذي وضعه، وخطَّط له، وأعدّ له).
يقول ابن رجب -رحمه الله- في كتابه شرح لبيك اللهم لبيك: “الكيّس هو اللبيب الحازم العاقل الذي ينظر في عواقب الأمور فهذا يقهر نفسه ويستعملها فيم يعلم أنه ينفعها بعد موتها وإن كانت كارهة بذلك”.
المهارة الرابعة: (أن يَدَعَ الإنسان غير المهم من الحاجات والأعمال عند التزاحم).
يقول الماوردي -رحمه الله- في أدب الدنيا والدين: “وينبغي أن يقسم الحصيف حالة تصرفه ويقظته على المهم من حاجاته، فإن حاجة الإنسان لازمة، والزمان يقصر عن استيعاب المهم، فكيف به إذا تجاوز إلى ما ليس بمهم، هل يكون كتاركةٍ بيضها بالعراء، وملبسةٍ بيض أخرى جناحًا”.
المهارة الخامسة: (أن يُحاسب الإنسان نفسه كل حين).
إن محاسبة النفس من المهارات المهملة التي ينبغي أن يعمل الإنسان بها في جميع الأوقات.
المهارة السادسة: (أن يقوم الإنسان على خواطره وأفكاره حارسًا): فيحفظ هذه الخواطر والزلاَّت، فإن الخاطرة هي أول الأفكار، ثم لا يزال الإنسان في هذه الخاطرة إلى أخرى إلى ثالثة، فيتقلب في بحار الخذلان من خاطرة إلى أخرى ومن فكرةٍ إلى أخرى.
إن الإنسان ينبغي أن يكون حارسًا على خواطره، ولن يكون المرء حارسًا تمام الحراسة إلا إذا كان: صادق التأهّب في لقاء الله، عالِمٌ أنه سيلقى الله سبحانه وتعالى قريبًا، وأن الموت أقرب إليه من شراك نعله، وأنه إن قعد فأراد أن يَمضي من قعدته؛ فإنه قد يرى ملك الموت واقفًا ليقبض روحه.
ولذا لما أتى ابن القيم -رحمه الله- في طريق الهجرتين ليُبيِّن كيف يكون الإنسان على طريق استقامة واقفًا على هذا الطريق؛ لا يُولّي عنه، فذكر أنه لا يستطيع أن يحقق ذلك إلا بشيئين اثنين:
(أن يقف على خواطره حارسًا، ولن يكون ذلك إلا بالثاني وهو أن يكون صادق التأهب للقاء الله).
لقد زرع النبي صلى الله عليه وسلم في أفئدةِ من حوله هذه القاعدة الكلية العظيمة المهمة التي تجعل الإنسان نبيهًا دومًا؛ حتى يقف على خواطره، فلا يسمح للشيطان أن يُفرِّخ ويبيض في عقله وفي أرضية خواطره حتى يُقلِّب مجَنَّ الخواطر يَمنةً ويسرة.