إن الملك إلا لله، يدبر الكون كيف يشاء، لا شريك له في تدبيره، كل شيء بقدره وتقديره، أمره نافذ ولا راد له، فعال لما يريد كيفما يريد، في الوقت الذي يريد، لا يسأل عما يفعل لا إله إلا هو القادر القدير، لا غالب لأمره ولا معقب لحكمه..
هذا ما أكدته الأيام والوقائع والأحداث، واطمأن له القلب وزاد فيه اليقين درجات، وإنها لعبرة لكل معتبر مستبصر يتأمل في آيات الكون وعجيب أمر الله في تدبيره، وتتحق أمام عينيه مقولة ” الأيام دول”، وينجلي في الأفق قوله تعالى “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس”.
نعم فالله مداولها، ولكننا في زمن ظن القوم أنهم ملوك الدنيا الذين يتولون فيها التصريف والتدبير، وأنهم المقدمون والمؤخرون، والمغنون والمفقرون، وتعالى بهم الغرور حتى توهموا أنفسهم آلهة من دون الله لما نرى من غريب تصرفاتهم وشذوذ صنيعهم، فتجاوزا الحد كل بحسبه وموقعه، لما آنسوا من أنفسهم أنهم قادرون على التدخل في سير الحياة بالتدبير والتخطيط، وبإشارة أو كلمة يغيروا الخريطة السياسية أوالاقتصادية أوالاجتماعية، ويرفعوا من قدر إنسان أو يضعوا آخر، يولون هذا ويعزلون ذاك، ويضعون المخططات الخماسية والعشرية والعشرينية، والمخططات قريبة المدى وبعيدة المدى، والأفق القريب والبعيد، ولسان حالهم ” أليس لي ملك الدولة وهذه الانهار تجري من تحتي”، وهكذا تفرعنوا ونسوا أن للكون ربا يدبره، وللخلق خالقا يتصرفون بمشيئته وهم أنفسهم لها خاضعون، وأنه لا حركة ولا سكون إلا بعلمه وإرادته.
إن طغيان التدبير المادي لشؤون الحياة والغفلة عن مشيئة الخالق ليس قصرا على مسؤول أو رئيس أو حاكم، وإنما هو تصرف خاطئ يمارسه حتى الناس العاديون فيما يتعلق بأمورهم الخاصة، وقل ما تسمع من ينهي مخططه بالمشيئة الإلهية، وإرادته بالارادة الربانية، وكأن الكون بلا إله، لذا ينبغي على كل مسلم مؤمن وحتى غير مؤمن أن يسلم الأمور إلى بارئها، وأن يعلم أن الله هو من يقول للشيء كن فيكون.
ولنعتبر بما يجري حولنا من أحداث حيرت العالم وبهتت الخبراء والمختصين، وأدهشت علماء الاستراتيجيات والمستقبليات في جميع الميادين، وبهرت عباقرة التخطيط المتعدد السنوات والأعوام، وصدم الجميع لما شاهده العالم من ثورة اشتعلت نارها فجأة -ومن غير إرهاصات- في تونس، وامتد لهيبها إلى الجيران، وغطى دخانها سماء العالم فكان حاصل مخططات القوم أن ضربت في صفر، وبدأت العملية من جديد يبدوا أن أصحابها ليسوا من أهل الاعتبار والتأمل والاتعاظ!
فمن منهم كان يخطر على باله أو يدور في خلده أن يحصل ما حصل، وأن تتغير خريطة العالم وأحواله بالشكل الذي لم يتصوروه أو يسطروه، لكنه كان في كتاب الله مسطورا وقدرا مقدورا.
وصدق الله إذ يقول في محكم التنزيل: “وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”؛ “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” ويعلمون ويذكرون ويتفكرون، وإن من حاز خصلة من هذه الخصال؛ فما عليه إلا أن يخطط ويدبر وينهي كل ذلك بمشيئة الله ولو كان تخطيطه لدقيقة من الزمان، فلله الأمر من قبل ومن بعد، مقدر الأقدار، وواهب الأعمار، ومفرق الأرزاق، كل يوم هو في شأن.
وأن نعلم علم اليقين أنه لا يعلم ما في غد إلا الله، وإنه لغد حافل بالأحداث التي ستغير مجرى التاريخ بشكل لا يعلم عنه أذكى الخبراء والمخططين… شيئا، فهي في علم الله، ولننتظر العجب العجاب ولنستعد ليوم المئاب فالذي يقع لا يدل إلا على الوشوك ليوم المعاد.
والله تعالى أعلى وأعلم.