الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيدا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله صلى الله عليه وسلم وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فَسَد الزمان وقلَّ فيه المنصف *** وتزوج الفرسَ الحمارُ الأجلفُ
علت المزابل والقصور تهدمت *** ورنا إلى العلـياء من لا يشرفُ
وتــزوج الــرجل اللئـيـم بـماله *** بنت الـكرام وأصلـه لا يعـرفُ
لقد تلقيت خبر الإستهزاء بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام رضي الله عنهم!!! فقلت في نفسي: لعله هجوم آخر من الهجمات المعتادة, والتي بات يرفع لواءها أعداء الإسلام التقليديون, وما كان يخطر بالبال أن يتبنى الهجوم بعض بني جلدتنا ممن يتكلم بألستنا, وربما يدين بديننا؟!
أقول هذا وأنا في غاية الحزن والأسى لما يحدث, وكأن المستهزئ هو “جاك: JAKE” أو “كترين:CATRINE “. وكأن المستهزََأ به هو فلان أو علان من الناس, بل وكأن القضية هي مجرد مزاح أو ضحك أو ترويح عن النفس!!
إن ما وقع في مجلة “نيشان” في عددها (91) وما يقع من مثل هذه الأحداث لا يخرج عن وجهتين:
الأولى: إما مقصود -وهذا لا ينبغي أن يصدر ممن لا دين له, أو يدين بدين غير الإسلام- وهذه مصيبة, إذ كيف يُتجَرَّأُ على مثل هذه الأفعال, في بلد يدين بدين الإسلام؟! بل دستوره ينصُّ على أنه بلد مسلم؟! بل الأكبر من ذلك أن وليّ أمره هو أمير المؤمنين, وحامي حمى الوطن والدين!!
الثانية: وإما أنه غير مقصود ـ بمعنى أن صاحبته تجهل حكم الشرع في هذا الباب وبالتالي فهي مجرد حاكية -زعمت- وهذه مصيبة أعظم, إذ أن صاحبة هذا الهراء زعمت نسبته إلى المغاربة, وكأن هؤلاء ليس فيهم علماء, ولا مجالس علم, ولا فقهاء, وإنما هم همج رعاع؟!!
بل لعل الصواب أن صاحبة هذا المقال تتكلم عن شرذمة ممن هم على شاكلتها وهنا في هذه الحال, لا يحقُّ لها أن تعبِّر بالألف واللام المستغرقتين للجنس (الْمغَارْبَة تَيْضْحْكُو على الدين, الجنس, السياسة).
لعل القارئ الكريم يستعجل الفائدة, ويتساءل عن العلاقة بين العنوان والمقدمة؟
أقول وبالله التوفيق:
إن ديننا الحنيف ولله الحمد جامع مانع, جامع لكل خير, ومانع لكل شر, بل جاء لتكثير المصالح والمنافع, وتقليل المفاسد والمضارّ, ومن ثم فإن العلاقة بين العنوان والموضوع تكمن في الإجابة عن السؤال المطروح، والإجابة تجرنا حتما إلى الحكم, والحكم لابد له من تصور, إذ أنه كما يقول الأصوليون: (الحكم عن الشيء فرع عن تصوره).
إذا عُلم هذا، فما معنى المِزاح؟ وما علاقته بالإستهزاء؟
المزاح بكسر أوله مصدر مَازَحَ, فهو بمعنى الممازحة, وبضمه مصدر: مَزَحَ, كذا قرره جمع, وبالجملة فهو انبساط مع الغير من غير إيذاء له, وبه فارق الإستهزاء والسخرية الذي هو الإستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس, وإن أظهر المستَخِفُّ الإستحسان والرضى تهكما.
فالمزاح إذا شرعي, وقد بوب له كثير من أهل العلم في كتبهم كالإمام البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد, والإمام الترمذي في سننه, والنووي في أذكاره وغيرهم, ذكروا ما جاء في ذلك من أحاديث, حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا كما روى ذلك الطبراني في الكبير وكذا في الصغير عن ابن عمر رضي الله عنهما, وإسناد الطبراني حسن كما في المجمع, وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي في السنن وحسنه (أن الصحابة قالوا: يا رسول الله؛ إنك تُدَاعِبُنا, قال: إني لا أقول إلا حقًّا).
بل كان أصحابه صلى الله عليه وسلم كما في مسلم بمعناه والترمذي (يتناشدون الشعر, ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية, وهو ساكت فربما تبسم معهم).
وفي الأدب المفرد بسند صحيح أن الصحابة رضي الله عنهم (كانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال).
فالمداعبة إذا -كما يقول المناوي رحمه الله في الفيض-: “مطلوبة محبوبة، لكن في مواطن مخصوصة, فليس في كل آن يصلح المزاح, ولا في كل وقت يحسن الجدُّ”, وقد قيل لإبن عيينة: المزاح سبّة؟ فقال: (بل سنّة, ولكن لمن يحسنه).
قال النووي رحمه الله في الأذكار:”قال العلماء: المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه, فإنه يورِّث الضحك, وقسوة القلب,ويشغل عن ذكر الله تعالى, والفكر في مهمات الدين, ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء, ويورِّث الأحقاد, ويسقط المهابة والوقار.
فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله, فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال؛ لمصلحة وتطييب نفس المخَاطَبِ ومؤانسته, وهذا لا منع فيه قطعا, بل سنَّة مستحبّة إذا كان بهذه الصفة”.
أما الإستهزاء والسخرية بالله ورسله وصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم فكُفرٌ مُخرِجٌ عن الملَّة, لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه ورسله, وتوقير صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:”وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ, قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ, لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ” التوبة65ـ66, وقال تعالى في سورة النساء: “وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً”النساء139, والمعنى ـ يقول رشيد رضا رحمه الله في تفسيره ـ :” إن الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله وأفعاله وشرعه وآياته المنزّلة, وأفعال رسوله وأخلاقه وسيرته كان ذلك استهزاء بها… وتقديم معمول فعل الإستهزاء عليه يفيد القصر, والإستفهام عنه للإنكار التوبيخي, والمعنى: ألَم تجدوا ما تستهزؤون به في خوضكم ولَعِبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما؟ فهل ضاقت عليكم جميع مذاهب الكلام, تخوضون فيها وتعبثون دونهما؟ ثم تظنون أن هذا عذر مقبول, فتدلون به بلا خوف ولا حياء؟!! {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}التوبة فإن قيل ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد هذا الاستهزاءالذي سموه خوضا ولعبا, وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرُّونه هو سبب الإستهزاء الذي يعلنونه, قلنا: كلامهما حقٌّ, ولكل منهما وجه, فالأول: بيان لحكم الشرع, وهو أنهم كانوا مؤمنين حكما فإنهم ادّعوا الإيمان, فجرَتْ عليهم أحكام الإسلام, وهي إنما تبنى على الظواهر, والإستهزاء بما ذُكر عملٌ ظاهرٌ يقطع الإسلام, ويقتضي الكفر, فبه صاروا كافرين حكما, بعد أن كانوا مؤمنين حكما.
والثاني: وهو ما دلَّ عليه السياق هو الواقع بالفعل, والآية نصّ صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله وفي صفات الله تعالى ووعده ووعيده وجعلهما موضوعا لِلَّعب والهُزْءِ, كلُّ ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة وتجري عليه به أحكام الردَّة إلا أن يتوب ويجدد إسلامه” تفسير المنار(10/462,461).
هذا ما أردت بيانه في هذه العجالة, حيث الخواطر كسيرة, وعين الفؤاد غير قريرة, والقرائح قريحة, والجوارح جريحة من جنايات الأيام والآثام تأديبا من الله عن الرّكون إلى من سواه, واللياذ بمن لا تُؤمن غلبة هواه.
فأسأل الله صلاح الحال لي ولكم والفوز في المآل
وصلى الله على سيد الأولين والآخرين, وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين, والحمد لله رب العالمين.
وبعد كتابة هذا المقال أُخبرت أنه تم الضربُ على أيدي المعتدين من طرف الحكومة المغربية، فاللهم بَصِّرنا بعيوب أنفسنا, واجعل يومنا خيرا من أمسنا.