ترجع الجذور التاريخية لقضية التراث والمعاصرة في العالم الإسلامي إلى حملة نابليون على مصر، ومع بزوغ فجر القرن التاسع عشر الميلادي، أخذت القضية تفرض نفسها ثقافيا وسياسيا في مختلف البلدان العربية والإسلامية.
وما الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والبعثات الطلابية إلى أوربا، ومحاولات تحديث المجتمع الإسلامي إداريا وعسكريا، إلا صورة من الصور التي تعكس حدة تلك القضية وتجسد روحها.
غير أن الشكل الذي تبلورت فيه هذه القضية والمسار التاريخي الذي عرفته، أثر فيهما عاملان أساسيان: أولهما داخلي والثاني خارجي.
فالأول: يتلخص في عامل الانبهار الذي أصيب به العالم الإسلامي إثر الصدمة الحضارية التي انتابته بعد اطلاعه على قوة الأوربيين وتفوقهم، وذلك قبل مجيء الاستعمار ببضعة عقود. وقد نتج عن حالة الانبهار هذه، ظهور موقفين متقابلين:
– موقف يميل أصحابه إلى تقليد الحضارة الغربية ومحاكاتها والذوبان فيها عبر الانسلاخ التام عن التراث الإسلامي، وهذا الفريق يجسد الاستغراب بأدق أوصافه ومعانيه. وقد بلغ بهم الاستسلام وضعف الشخصية مبلغا أصبحوا معه موقنين بعدم جدوى كل محاولة للإبداع والابتكار والاعتماد على الذات.
– وموقف مقابل له آثـر التقوقع على الـذات وأدار ظهره لكل ما يتعلق بالحضارة الغربية، ولاذ بالتراث يحمي به ذاته من سهام الغرب السامة. وطفق أصحابه يمجدون التراث الإسلامي ويعتزون بالآباء والأجداد، ويفتخرون بإسهاماتهم المشرقة في ميدان الفكر والحضارة. واستهدفوا بهذه الطريقة تجاوز حالة الشعور بالذل والهوان، بسبب الصدمة الحضارية.
والعامل الثاني الخارجي يتمثل في طبيعة الحضارة الغربية وجوهرها. فقد ورث الأوربيون عن أجدادهم الرومان حب السيطرة واستعمار الشعوب واستعبادها. إضافة إلى هذا استعملوا كل الوسائل لكي يقنعوا شعوب العالم بأن الحضارة الأوربيـة وقيمها هي المقياس الوحيد لكل نهوض وتقدم.
وكانت البحوث والدراسات العلمية والاجتماعية على رأس هذه الوسائل. وكمثال على ذلك؛ ظهور وتطور الدراسات الأتنولوجية والأنتربولوجية. والتاريخ يثبت بأن نشأة الأتنولوجيا والأنتربولوجيا تزامنت مع بدايات التدخل الأوربي في العالم. ولعل (ليفي برويل) الأنتربولوجي الفرنسي كان من الأوائل الذين سعوا في إثبات تفوق الغربيين والجنس الآري عموما، وذلك في كتابه (عقلية ما قبل المنطق) حيث أثبت أن “الشعوب البدائية” ومن شابهها من الأمم المتخلفة مفطورة على التفكير اللامنطقي.
وخلاصة القول إن الثقافة الغربية تسودها نزعة مؤداها أن الإنسان الغربي هو النموذج الأمثل للإنسان، وبالتالي ينبغي الاقتداء به. ويسعى الغربيون، حكاما ومثقفين، مباشرة أو غير مباشرة، لإقناع العالم بهذه الفرضية. وبما أن الموطن الأصلي لقضية التراث والمعاصرة هو الغرب، وأن هذه القضية التي عرفها الغرب منذ مطلع عصر النهضة تعتبر جزء لا يتجـزأ من ثقافته، وأن ثقافته بطبيعتها تنزع إلى إلغاء غيرها من الثقافات والحلول محلها، كان من المنطقي أن تثار هذه القضية في البلاد الإسلامية التي خضعت للاستعمار.
إذن لم تكن قضية التراث والمعاصرة لتثار في العالم الإسلامي ولتأخذ الشكل والمسار التاريخي المعروف لولا حدوث عاملي الانبهار وهيمنة الحضارة الغربية. وفي رأيي أن هذه القضية بالشكل المعروف مفتعلة ومستوردة أكثر من كونها تعبير عن تطور طبيعي وذاتي للثقافة في المجتمعات الإسلامية.
غير أن هناك العديد من المثقفين المتشبعين بالتراث وروحه تخطوا هذا الطرح الهزيل لقضية التراث التي يرونها تتمثل في بعث روح حضارية تربط الحاضر بالماضي، وتؤكد عل الأصالة تأكيدها على المعاصرة.
ورغم أنهم لا يؤمنون بشد العربة إلى الوراء ولا بالالتزام الحرفي بكل جوانب الماضي، بل يؤكدون على عوامل التقدم الحضارية، فإنهم يضعون إطارا عاما للتطور يحكمه الوحي الإلهي الذي ينبغي أن يشكل روح الحاضر ودستوره العام، كما كان في عصور الإسلام الذهبية. وهذا التيار يمثل الاتجاه السلفي الذي اشتدت قوته في العقود الأخيرة، وعبرت عنه وسائل الإعلام بـ “الصحوة الإسلامية”.
ومما لا شك فيه أن كثيرا من الكتاب المغاربة المعاصرين تناولوا موضوع التراث والمعاصرة انطلاقا من مذهبهم الفكري أو رؤيتهم الثقافية والسياسية. ويعتبر الدكتور محمد عابد الجابري من بين أبرز الكتاب الذين اشتغلوا بهذا الموضوع، حتى أضحت كتاباته مادة للبحث والدراسة النقدية سواء في المغرب أم في المشرق.
وفيما يلي سيتم عرض وتحليل موقف الدكتور الجـابري من قضية التراث، مع محاولة استجلاء الطابع الاستغرابي المهيمن على ذلك الموقف.
موقف الجابري من التراث
يرى بعض الكتاب والنقاد أن الدكتور محمد عابد الجابري -رغم تأثره بالأطروحة الماركسية وبالاتجاهـات العقلانية للفلسفة الأوربية- اهتم بمسألة التراث وأشاد بأهميتها وقيمتها، عندما أثار إشكالية تحديث العقل العربي. في حين نلمس في موقف الدكتور العروي مثلا ميلا جليا إلى نبذ التراث وتجاوز كل ماله علاقة بالماضي.
«وموقف الأستاذ العروي -كما نرى- موقف يغلب عليه الطابع المثالي سواء في تبنيه للماركسية على هذا النحو التجريدي، أو نقده للتراث وموقفه الانتقائي منه، أو رؤيته للواقع الاجتماعي والاقتصادي أو تحديده لطريق العصرية والثورة. إن ماركسيته تفتقد الجدل الموضوعي والإدراك العيني لحقائق حركة الواقع العربي في تنويعاته المختلفة. ومن هذا الموقع التجريدي كانت نظرته إلى التراث ونظرته إلى العصرية»1.
إن الدكتور الجابري يدعو إلى الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي ويصفه بالعالمية والشمولية والتاريخية، ويعتبر إعادة قراءته واستيعابه وتمثله شرطا أساسيا لنهضة فكرية وحضارية صحيحة. كما يحمل على من يحـاول دراسة التراث اعتمادا على مناهج أجنبية ومستوردة تتنافر مع طبيعة الموضوع وخصوصياته «..إذن فالصورة “العصرية” الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية والعربية الراهنة عن التراث العربي الإسلامي: سواء منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صنف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب، صورة تابعة. إنها تعكس مظهرا من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية.. ولكن ماذا يبقى بعد ذلك؟
هناك أخيرا صورة “عصرية” أخرى ماركساوية الإدعاء أخذت تزاحم، منذ بضع سنين، الصورة الاستشراقوية لتراثنا. هذه الصورة الماركساوية تتميز عن سابقتها بكونها تعي تبعيتها لـ “الماركسية” وتفاخر بها. ولكنها لا تعي تبعيتها الضمنية لذات الإطار الذي تصدر عنه القراءة الاستشراقوية لتراثنا.
إن “المادية التاريخية” التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق وليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة هي الأخرى داخل إطار المركزية الأوربية: إطار “عالمية” تاريخ الفكر الأوربي، بل التاريخ الأوربي عامة، واحتوائه لكل ما عداه، إن لم يكن على صعيد المضمون والاتجاه فعلى الأقل؛ وهذا أكيد؛ على صعيد المفاهيم والمقولات الجاهزة. وهذا يكفي ليجعل الصورة الماركساوية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على فهم “من خارج” لهذا التراث»2.
«وأنا لا أوافق الأستاذ طيب تزيني على دراسته للفكر العربي في العصر الوسيط، تلك الدراسة التي اعتمد فيها بصورة ميكانيكية تصنيف آراء المفكرين المسلمين إلى مثالية ومادية»3.
وفي الفصل الثاني من كتاب (الخطاب العربي المعاصر) انتقد الجابري موقف كل من السلفي والليبرالي والماركسي من التراث، وانتهى إلى أن الأصالة والمعاصرة تتلخص في تحرر مما أسماه “بالنموذج السلف”؛ أي من كل نظرة سلفية سواء كانت ليبرالية أو ماركسية أو سلفية «السلفي الليبرالي وجميع الأسماء الإيديولوجية العربـية الأخرى لا تستطيع.. نحن العرب جميعا لا نستطيع.. أن نفهم ولا أن نعي ولا أن نمارس الأصالة والمعاصرة، لا نستطيع أن نجدد فكرنا ولا أن نشيد حكما للنهضة “مطابقا”، مادمنا محكومين بسلطة النموذج السلف، سواء كان التراث أو الفكر المعاصر أو شيئا منهما.
نعم الإنسان بطبيعته يفكر من خلال نموذج، ولكن فرق بين نموذج يؤخذ كـ”رفيق” للاستئناس به، وبين نموذج يِؤخذ كـ”أصل” يقاس عليه.
النموذج فيما يتخذ أصلا سلفا يصبح سلطة مرجعية ضاغطة قاهرة تحتوي الذات احتواء وتفقدها شخصيتها واستقلالها.. وإذن، فما يجب البدء به هو معرفة الذات أولا، هو فك أسرها من قبضة النموذج -السلف، حتى تستطيع التعامل مع كل النماذج تعاملا نقديا. وذلك طريق الأصالة والمعاصرة معا»4.
يتضح مما سبق أن الدكتور عابد الجابري يسعى إلى وضع ثوابت متينة لموقف جديد من التراث، موقف مؤسس على نوع من المرونة في التعامل معه عبر وسيلة نقدية فعالة، مع الحرص على إقامة مسافة أو فاصل معقول بين الدارس والمدروس: التراث، لتلافي صفة السلطة والهيمنة التي يملكها هذا الأخير تجاه ذواتنا وبالتالي العمل على “تشيئته” كما يقولون، وتجريده مما يتمتع به من القداسة والتأثير.
ومن هنا نلمس في كتاباته التراثية حملة قوية ضد النزعة السلفية التي يراها مؤسسة إبستمولوجيا على طريقة في التفكير نعتها بقياس الغائب (المستقبل) على الشاهد (الماضي). هذا القياس يعتبره الأستاذ الجابري العائق الأول في وجه النهوض بالفكر العربي الإسلامي، وبالتالي فإنه يدعو إلى إقامة قطيعة إبستمولوجية مع الفهم السلفي للتراث عبر إخضاع العقل العربي لعملية نقد وتفكيك صارمين، واستئصال الثابت البنيوي (قياس الغائب على الشاهد) من الجذور.
لكن الجابري يرى أن هذا المشروع الطموح لن يتحقق إلا بالاستعانة بمنهج يقوم على معالجة التراث معالجة بنيوية تاريخية وإيديولوجية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- محمد أمين العالم: الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر؛ ص:18.
2- د.محمد عابد الجابري: التراث والحداثة (دراسات ومناقشات)، ص:29.
3 ـ د.محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، ص:112.
4- د. محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، ص:56ـ57.