بالإضافة للجانب العقدي الذي استهدفته فرنسا العلمانية، بالتأسيس للمعاملات الربوية ومأسستها، وفرضها للضرائب المتنوعة والمتعددة، و تزامن ذلك مع إلغاء الزكاة الشرعية، فإن فرنسا الاستعمارية، اعتمدت هذه المعاملات المالية، كآلية من بين آلياتها المتعددة للاستنزاف الاقتصادي، وتكريس الاستغلال وتسهيل عمليته.
الشيء الذي فطن لخطورته العلماء وأعيان البلاد، ورفضوه وتصدوا له بقوة، ففي رسالة مؤرخة بتاريخ 1324، لعبد الحكيم الفاخري، يعرف فيها بحقيقة التدخلات التي تطرحها بعض الدول في مؤتمر الجزيرة الخضراء، وقد كان مستشارا للمولى عبد الحفيظ، وعمل محاميا أيضا، جاء فيها : “أما البنك المالي فإني لم أر في تيسيره وجها أبدا، وكيفما كانت صورته فهي مضرة غاية، ومخالفة للشرع المحمدي، ومن كان على غير شرع فلا خير فيه”. مظاهر يقظة المغرب ج 2 ص 323.
بل كان من بين أسباب عجلت بخلع بيعة المولى عبد العزيز، حيث اجتمع أكثر من مائة رجل من أعيان مدينة فاس وأهل الحل والعقد فيها، وأصدروا بيانا يشهدون فيه بالمخالفات التي وقع فيها المولى عبد العزيز ويستنكرونها، ثم جاء جواب العلماء بوجوب الخلع.
ومما جاء في البيان الموقع بتاريخ، فاتح ذي الحجة عام 1325هـ:
” الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
شهوده الموضوعة أسماءهم عقب تاريخه، وكلهم من أعيان فاس وشرفائها ورماتها ورؤسائها، وتجارها…وغيرهم، يشهدون بأن الأمير – حينه – مولاي عبد العزيز؛ صدرت منه أمور منكرة شرعا وطبعا، من موالاته وميله لبعض أجناس الأجانب آناء الليل وأطراف النهار، وتبذير بيت مال المسلمين فيما لا يرضي رب العالمين، وتبديل الزكاة والأعشار بإحداث الترتيب، والبنك الموجب للربا الذي هو أعظم الذنوب، والاشتغال بما لا يرضي حتى انحلت بسبب ذلك عرى الدين، وتفرقت جموع المسلمين، وأدى الحال إلى تمكين بعض الأجانب من بلادهم إلى أن استولى على توات ونواحيها وفجيج وعيون بني مطهر ووجدة والدار البيضاء، وكاد يستأصل بلادات المسلمين…” التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير، الجزء السادس، ص 211.
لقد فتحت فرنسا الاستعمارية العلمانية، الباب على مصراعيه للمعاملات المالية الربوية، ولم يعد الأمر مقتصرا على المولى عبد العزيز، الذي كان يقترض الأموال الطائلة بالفوائد الربوية، والشروط القاسية، ثم يقترض ليسدد، فيجد المبلغ تضاعف، وهكذا أدخل المغرب في دوامة، أثقلت كاهله وقيدته وكبلته. بل أصبح المغرب منذ 1904، أرضا خصبة ظهرت فيها مؤسسات القروض وفروع الشركات والأبناك الربوية، وانتشرت كالفطر، ثم أرسل دلكاسي سنة 1905، وزيره سان روني، بهدف فرض مخطط للإصلاحات، كان ضمنه إنشاء بنك مخزني ربوي، والذي كان موضوع نقاش أيضا في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، التي نصت معاهدتها في بندها الثالث، على التأسيس لبنك مخزني ربوي، سنة 1907، فكان هو الوكيل المالي للحماية.
وفي 1912، أنشئ البنك الجزائري التونسي، في الدار البيضاء، ثم أنشئت عدة مصالح ومديريات بالتتابع منذ سنة 1912، كان من أهمها وأقدمها مديريات المالية والجمارك، القائمة على الضرائب والمكوس، معتمدة على المبادئ الأساسية للمحاسبات الفرنسية، بغرض تمكين المجموعات المالية والأقلية المحظوظة، من أموال الشعب المغربي.
وبالعودة للبنك المخزني الربوي، فقد “أصبح مؤسسة دولية، مقره الاجتماعي في طنجة، ومقره الإداري في باريس، ويدار بالقوانين الفرنسية، واشتركت فيه الدول الإثني عشر، الموقعة على معاهدة الجزيرة، بحصص وأسهم، بل أصبح للفاتيكان 3.3 في المائة من رأس ماله، إلى أن سيطرت عليه فرنسا، بتضخم حصتها من رأس المال، وأيضا في تشكيلة المجلس الإداري للبنك، الذي كان يسمى البنك المخزني المغربي، وألزمت الحكومة الشريفة بوضع القطع الأرضية الضرورية لبنائه وبناء وكالاته تحت تصرفاته مجانا، وضمان حماية مؤسساته بواسطة حرس كاف، وأصبح يحدد نسبة الخصم (الربا)، باتفاق مع مديرية المالية، ولم يكن يخضع لأي رقابة حكومية”. المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية، ألبير عياش، صفحة 123 ومابعدها بتصرف.
“فقد نص عقد الجزيرة الملحق، على أن المندوب السامي المغربي لايحق له التدخل في إدارة البنك التي يشرف عليها مدير عام فرنسي ومدير إسباني، ويتألف المجلس الإداري من عدد من الأعضاء يحددون بحسب المساهمة في رأس المال، وللبنك محكمة خاصة لفض نزاعاته”. المغرب عبر التاريخ، إبراهيم حركات، ج3 ص440.
بتأسيس هذا البنك الربوي تم تتويج عملية إصلاح النظام المالي (السكة، الضرائب والموارد، الجباية، نظام الأمناء )، وهي في الحقيقة عملية إفساد وتدمير كبيرة، أتت على المعاملات المالية الإسلامية، فقضت على نظام الزكاة، أو الأحرى عبادة وشعيرة الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام، وفتحت الباب أمام المغاربة للتطوع في جيش من المحاربين لله ورسوله، بأكلهم للربا وتعاملهم به، قال تعالى: “يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله”.