لمدرسة (الباطنيَّة الجُدُد) أُسُسٌ ومبادئ قامت عليها، وتسعى لنشرها والتَّرويج لها في كافَّة الوسائل المتاحة.
ومن أهم هذه الأسس:
الأوَّلُ: القولُ بالظَّنِّيَّة المطلَقة لدلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ
يقرِّر أصحاب هذه المدرسة أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ كتابًا وسنَّةً هو نَصٌّ ظَنِّيُّ الدِّلالة بصفة مطلَقة؛ فهو لا يحتمل معنى واحدًا فقط؛ بل هو مفتوح على احتمالات لأكثر من معنى من المعاني.
والنَّصُّ المحكم الذي لا يحتمل إلَّا دلالة واحدة لا وجودَ له (النص القرآني؛ طيب تيزيني 261، ونقد النص: علي حرب 20)؛ فَيَتَرَتَّب عليه أنَّ أيَّ فهم للنَّصِّ الشَّرعيِّ ينبغي أن يحظى بالاحترام؛ إذ يمكن أن يكون حقًّا، وليس ثمة قراءات صحيحة وأخرى خاطئة؛ بل القراءاتُ كلُّها صحيحةٌ. (التراث والتجديد حسن حنفي 112).
«فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ» كما يقول أركون في تاريخية الفكر العربي الإسلامي.
وبناءً على هذا فلا يَحقُّ لأحد الادِّعاء بأنَّ ما توصَّل إليه من فهم هو الصَّحيح دونَ غيره؛ حتى لو كان هذا الفهمُ انعقد عليه إجماعُ الأمَّة.
وأركون بهذا الكلام لا يدعو العلماء والمجتهدين للنَّظَر في معنى النُّصوص الشَّرعيَّة التي تحتمل دلالتها اللُّغويَّة أكثر من معنى؛ بل يدعو كلَّ فرد لأن تكون له قراءتُه الخاصَّةُ لهذا النَّصِّ ينتهي فيها إلى ما يَرْتَضيه من مدلول بحريَّة مطلَقة لا يحتكم فيها إلَّا إلى ضميره(1 ).
ولذلك يقول: «إنَّ القراءةَ التي أحلم بها هي قراءةٌ حرَّةٌ إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتِّجاهات؛ إنَّها قراءة تجد فيها كلُّ ذات بشريَّة نفسَها». (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل لأركون 76).
ويقول أحدهم: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات» (نقد الحقيقة، على حرب 45).
وأنصارُ هذه المدرسة يرفعون شعار: «النَّصُّ مقدَّسٌ، والتَّأويلُ حرٌّ»؛ من حقِّ كلِّ مسلم أن يتعاملَ مع النَّصِّ بالطريقة التي يراها..
ولو سرْنا على منهج هذه المدرسة في تفسير النُّصوص فسيؤولُ بنا الأمرُ إلى فوضى من الآراء والأفكار التي لا حدَّ لها؛ لأنَّ النُّصوصَ لا يتحصَّل من معناها شيءٌ يضبطُه قانونٌ حسب قولهم.
وإذا كان القرآنُ كتابًا مفتوحًا على جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدةُ من إنزاله ليكون منهاجًا وسبيلاً للمؤمنين؟!
وبالمقابل هل يحقُّ لأيِّ إنسان أن يَفهمَ نصوصَ علم الطِّبِّ والهندسة وغيرهما حسبَ فهمه، وأن يمارسَ هذه الأنشطةَ عمليًّا في أرض الواقع إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتجاهات؟!
إنَّ هذا المبدأَ الذي تقوم عليه هذه المدرسةُ لو تمَّ العملُ به في قراءة النُّصوص لانهدمت الحياةُ الاجتماعية بأكملها؛ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71].
ثم ماذا لو قدَّم أحدُ أصحاب هذه الفكرة لتلاميذه في الامتحان قصيدةَ المتنبِّي في مدح سيف الدَّولة ثمَّ خَطَرَ للتلاميذ أن يكونوا من أصحاب [القراءة المعاصرة] في إجابتهم؛ فكتب أحدهم: [هذا هجاء مقذع]. مؤوِّلاً كلَّ كلام المتنبِّي على قاعدة الاستعارة التَّهَكُّميَّة!!
وكتب الآخر: [هذا غزل رقيق؛ فالمتنبِّي أسقط على سيف الدولة صورةَ الأنثى التي لم يجدها في الواقع!!].
وكتب الثَّالثُ: [هذه قصيدة في الفخر؛ فالثنائية متوهمة فقط، وليس سيف الدولة في القصيدة إلا الأنا الأخرى(alter – ego) للمتنبِّي].
وأمَّا الرَّابع فقدَّم الورقةَ بيضاء!!
كيف يمكن للمعلم أن يصحِّحَ إجابات التَّلاميذ بناءً على مذهبه؛ فإن حاكَمَهم إلى معيار ما، فقد ناقض نفسه، وللتلاميذ أن يقولوا له: كيف تحاكمنا إلى فهمك، وقد أمليت علينا أنَّ كلَّ القراءات مشروعةٌ؟!
وإن سار مع منطق القراءة الجديدة فهي الفوضى لا محالة، وحتى الورقة البيضاء ينبغي أن تعطى درجة؛ لأنَّ سكوتَ التلميذ عن الإجابة تعبيرٌ استفزازيٌّ حداثيٌّ عن الثَّورة على كلِّ نصٍّ تراثيٍّ، ورفضٌ لكلِّ إسقاطات عصريَّة على شاعريَّة المتنبِّي. (مستفاد من شبكة التفسير والدراسات القرآنية).
فهل يُعْقَل أن يكون المرادُ الإلهيُّ بالوحي الذي أنزله الله وحضَّ على اتِّباعه وأمر بالاستسلام له وعاقب على الإعراض عنه متروكًا لكلِّ إنسان يفهم منه ما يريد؟!
هل يُعْقل أن يكون جوهرُ الوحي وأصولُ معانيه تتناقض الأجيالُ في تفسيرها جذريًّا؟!
الأساس الثَّاني: إهدارُ فهم علماء الأمَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة
وهذا ناتجٌ عن قولهم بأنَّ فهمَ السَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة لا يعدو أن يكون قراءةً من القراءات التي يَحتملها النَّصُّ، وبالتالي فهي غيرُ ملزمة لأحد.
يقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به» (تجديد الفكر الإسلامي 105).
وهذا تَلَطُّفٌ منه في العبارة؛ أمَّا غيرُه فيصرِّح بأنَّ فهمَ الصَّحابة كان فهمًا خاطئًا، وتوالى الخطأ بالتَّناقل إلى اليوم، وأنَّهم قد غفلوا عن الوجه الحقِّ من الإسلام.
وقد ألف عبد المجيد الشرفي كتابًا خصه لشرح هذه الفكرة، واختار له عنوانًا يدل على محتواه: «الإسلام بين الرسالة والتاريخ»، فالإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم -بالنسبة له- ليس هو الإسلام الذي تحقق في التاريخ!
ويسخرون من فهم السَّلَف ويقولون: إلى متى تظلُّون على الفهم الصَّحراويِّ البدويِّ للقرآن والسُّنَّة؟
قال ابن تيمية- رحمه الله: «استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أمِّيِّين.. لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله.. هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة» (مجموع الفتاوى 5/10).
ويَزْعُم بعضُهم أيضا أنَّ فهمَ الصَّحابة والسَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة كان مناسبًا لواقعهم وثقافة عصرهم، ولا يتناسب مع عصرنا؛ وهذا قولٌ باطلٌ؛ فإنَّ نصوصَ القرآن نزلت بلغة عربيَّة ذات معان محدَّدة يعقلُها العارفون بهذه اللُّغة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]، ثم جاءت السُّنَّة لتزيد المعاني اللُّغويَّة بيانًا.
ثم إنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّروا هذه النُّصوصَ بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسُّنَّة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث.
ثمَّ جاءت الأجيالُ تلوَ الأجيال من أئمَّة المسلمين وعلمائهم لتفهم من نصوص الكتاب والسُّنَّة هذا الفهمَ نفسَه كما تدلُّ عليه مؤلَّفاتُهم؛ فالقولُ بأنَّهم فسَّروا النُّصوصَ بحسب ثقافة عصورهم مجرَّدُ وهم تبطله الحقائق التَّاريخيَّة.
الأساس الثالث: القول بـ (تاريخيَّة النَّصِّ الشَّرعيّ)
ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.
فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم -كما هو الأمر في حياة الناس اليوم- فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول؛ فحسب أراكون فإن ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول صلى الله عليه سلم دون غيرها من البيئات (الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي)، فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، «المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة» (الفكر الأصولي لأركون 30).
وأما الحدود فإنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: «أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً» (الإسلام والحرية الالتباس التاريخي، محمد الشرفي 89).
وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان. (النصُّ، السُّلطة، الحقيقة، لنصر حامد أبو زيد 139).
وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع إلى نظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته. (بدعة إعادة فهم النص؛ محمد صالح المنجد).
—————————
(1 ) وبالغ بعضهم في القول فرأى أن من حق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أن يفسروا القرآن بما يوافق ثقافتهم ومعتقداتهم، ينظر: النص القرآني، طيب تيزيني (226).