الأمة عبارة عن نظام يتألف من أفراد شتى، تجمعها جهة واحدة كالجامعة الدينية أو الوطنية، ولا يلزم في استمرار حياتها واستقامة بنيانها أن تتناسب أفرادها كالحلقة المفرغة لا يُدري أين طرفاها، بل تتفاوت رتبهم رفعة وحطة، وتختلف إرادتهم في التفنن على جلائل الأعمال وصغائرها.
سنة الله في اللذين خلوا من قبل، ولا يؤدي ذلك التفاوت والاختلاف إلى انتهاك قواها وانشقاق عصاها، ما دام أولوا القوة منها، وهم علماؤها ذوو الأفكار الرشيدة، باذلين جُلَّ عنايتهم وأقصى مجهودهم في تقويم المعوج من أخلاقها، وتعديل الزائغ من عقائدها، والنهي عن البدع المذمومة بألسنة من يعتد بهم في الدين، والتنفير عن العوائد التي ترتعد من هجنتها فرائص أهل البصائر، غير مشتبه عليهم ما يُهيِّج الفتن ويُحرِّك سواكن المزعجات فيتجنبونه، وما يتأيد به حق أو يدمغ به باطل، فينتهزون فرصته، مع الاستطلاع على غايات ما ينشر من المصنوعات المبتدعة والفنون المخترعة، ليرتبوا أحكامها على قواعد راسخة، فيما اشتمل على مصلحة شيَّدوا له ذكرا، ورفعوا له شأنا، حتى تتناوله جمهور الأمة بصدور سليمة من عقدات التحرج، وما شابه أن يكون مفسدة أو لا نتيجة له إلا الاستغراق في فضول الحضارة، أسرعوا إلى إطفاء نيرانه قبل تسعُّرها، صيانة لوجه المدنية الكبرى من أن تغشاه غبرة أو ترهقه قتره، وقياما بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة، وهم على خبرة -أيدهم الله-، أن هذه المقاصد التي صعَّدنا إليها النظر، لا تنفك عنهم تبعتها إلا بإفراغ الجهد في التجاهر لما لها أو عليها، ولا أرفع صدى وأبعد مدى من لهجات أقلامهم المرتاضة، ونفثاتها الفعالة في النفوس، الآخذه بمجامع القلوب .
وبذلك يتجلى في عالم الشهادة ما لساداتنا العلماء من الشرف الرفيع والمقام المحمود، ويعلم المستخفون الآن بحرمتهم أن خطتهم أفسح مجالا من أن تقصر على حكاية ما بين دفتي كذا، مع التماوت في ثوب الخمول والإعراض عن النظر في كل ما يعد ظاهرا من الحياة الدنيا، وعدم الاعتبار بما تضعه بطون الليالي من الحوادث الجليلة، وفي عناية اللذين أوتوا العلم بشأن الكتابة مآرب أخرى.
منها المحافظة على ما للإنشاء العربي من الأساليب المؤثرة على الأذهان، وإحياء ما اندرس من آيات سحر بيانها، وفي ذلك أخذ بيد الخلف حيث يقفون تجاه قوم ساروا في مضمار هذه الصناعه شوطا بعيدا.
ولقد نعلم أنهم لم يقيموا جدار هذا الارتقاء باستعداد زائد في فطرتهم، أو لقوة فائقة في إنسانيتهم، أو لسر خصه الله بأقلامهم، وإنما سلكوا مسلك الحزم والنشاط، فمسحوا عن أعينهم نوما كان شره مستطيرا، هم رجال ونحن رجال، أقلامهم من القصب الذي ننحت منه أقلامنا، ولا يحملونها إلا بمثل أناملنا قوة وشكلا.
أما مدادهم نوع ما نكتب به الحروف الهجائية لصبيان المكاتب، وأما محابرهم فليست غير الظروف التي نبتاعها من الزجاجين، ولنا أن نتخذها زجاجات كأنها قوارير من فضة، وأما ورقهم الذي ينشرون فيه ذلك الطراز البديع، فها هو ذا بين أيدينا، لم ندرك فرقا بينه وبين ما يضع فيه الباعة سقط متاعهم، ويكأنهم تقدموا وتقاعدنا، وافتكوا عزائمهم من سلاسل التكاسل وأغلال التواني، واستماتت هممنا تحت إصرها الثقيل، ونحن بما عندنا راضون، ويقول بعض الملأ الذين استكبروا لمثل ذلك السكون فليعمل العاملون.
وههنا نكتة أخرى نستأذن حضرات القراء في إرسالها، وهي أن بعض الشعب يريد كل امرئ منهم أن لا يصدع بكلمة حتى يتسلمها جميع من في العالم بيد القبول والاحترام، وإلا فلا يكلم بها حتى إنسيا خشية أن يسترق الشياطين سمعها، علة ذلك أن قلوبهم مستضعفة، لا تتجلد بالمصابرة على سهام الانتقادات الراشقة، يود الكاتب أن يخر من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، ولا يبدي رأيا ترده النقاد على عقبه، لما يُقدِّره من أن دحض رأيه ولو مرة تسقط به جلالته من أعين الذين يتهيبونه، مع أنه كثيرا ما يحكم على بعض الجهابذة بعدم الإصابة في عدة مسائل، ولا يهضم ذلك من جانب عظمتهم شيئا .
ولا يختلج في ضمائرنا أن تلك الأمة التي تقدمت في طريق الأدب شعرا وكتابة، بمجرد ما تنبهوا بعد ذلك السبات المديد، انتصبوا قائمين على هذه الصورة التي نشخصهم بها اليوم حتى نستصعب أن نكون غدا أو بعد غد واقفين حيالهم، ويقودنا هذا الاستصعاب إلى التمسك بحبال اليأس والقنوط والزهد في رقيهم الأسمى، بل نستيقن أنهم لم يصلوا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالتنقل في طريقها رويدا رويدا، ومجاهدة مصاعبها شيئا فشيئا، في أزمنة متسعة .
ونحن نُؤمِّل من أبناء وطننا العزيز، أن ينزفوا غلالة جهدهم في تحرير الموضوعات المفيدة كتابة، كما صرفوا إليها وجهتهم تدريسا، يعدوا لنبال الطعن والانتقاد ما استطاعوا من ثبات وقوة الجأش، ويُرضخوا شوكتها بالإغضاء وعدم الاكتراث برمتها “وأنا الكفيل بأن تعود حياتهم” .
ولقد امتلأت صدورنا جذلا حين استهلت في وجوهنا تباشير رسائلهم العلمية والأدبية، ويوشك أن يعقبها صباح يزيد شعور إخواننا تنبها وعواطفهم رقة، فيكتال لهم التاريخ من جميل الذكر ما يكتاله للأمم المترقية، ويوفيهم الله أجرهم بغير حساب.
محمد الخضر حسين
شيخ جامع الأزهر وعلامة بلاد المغرب
الأعمال الكاملة 12/5882