هذه مقتطفاتٍ من حِكَم الرافعي في كتابه الفريد: “وحي القلم”، وبالضبط في سلسلة مقالاتٍ عَنْوَنَ لها بـ(انتحار)، يتكلم فيها على لسان الإمام الشعبي رحمه الله عن قصص أفرادٍ حاولوا الانتحار إما لشدة الفقر، أو لوسواسٍ في العقل، أو للتعلق بامرأة، وغيرها، و يرد عليهم بلسانهم:
1- “إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانا، بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الرَّوْعُ أحدث في ثيابه من الخوف.
ومن ثمَّ كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيبا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه”.
2- وأنّ الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟
يا بني: إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله.
وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كان فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟
أيزعم أحدٌ أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟
وايم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعًا، لهو الخالي من الفضائل جميعًا.
3- إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدكّ الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحهِ قوة في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم.
4- الاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضا، أو تحويله عن معناهُ بِجَعْلِ البلاء ثوابا وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت؛ وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم.
وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.
وما الإنسان في هذا الكون؟
وما خيره وشره؟
وما سخطه ورضاه؟
إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها.
5- وعزيمة الإيمان إذا هي قَوِيت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئا شيئا، فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامرًا متفشيا يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئا فشيئا بما فيه وبما ليس فيه.
وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء، فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة؛ كما يرى الأعمى بوهمه، لا عينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.