تعرفنا في المقال السابق على أقسام المصطلحات التي يتواضع عليها أهل العلوم، كما تطرقنا إلى ضرورة العناية بالمصطلحات الشرعية لما في ذلك من العصمة والسلامة الدينية والأخروية. وسنتناول في هذا المقال أمرين هامين، لهما ارتباط وثيق بما تقدم وهما:
– الحذر من تلاعب أهل الأهواء بالمصطلحات الشرعية.
– الحذر من فهم كلام الله ورسوله، وكلام السلف، على الاصطلاحات الحادثة.
3. الحذر من تلاعب أهل الأهواء بالمصطلحات الشرعية:
تقدم معنا بيان ما في إهمال المصطلحات الشرعية من الخطورة على الدين، وقد نقلت كلام العلماء في التحذير من هذا المسلك، غير أن هناك مسلكا آخر لا يقل خطورة عن هذا المسلك، ألا وهو استعمال الألفاظ الشرعية في غير معانيها، وتحريف مضمونها مع الحفاظ على مبانيها، فهذا المسلك ربما يكون أشد تدليسا وتلبيسا على الخلق من المسلك الأول؛ لذا وجب التحذير منه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “…والمقصود هنا: أن كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم، ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب (الكتب المضنون بها) وغيره، مثل ما ذكره في “اللوح المحفوظ” حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ “القلم” حيث جعله العقل الأول، ولفظ “الملكوت”، و”الجبروت”، و”الملك”، حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ “الشفاعة” حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع، وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا… . (مجموع الفتاوى 1/245ـ246).
ومن هذا الباب إطلاق المعتزلة لفظ “التوحيد” على تعطيل الصفات، وإطلاقهم لفظ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” على الخروج على حكام المسلمين، وإطلاقهم لفظ “العدل” على إنكار القدر. (ينظر شرح الطحاوية ص:298-299).
ومن هذا الباب أيضا ظن بعض الجهلة أن المقصود بقوله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”، جماعة “العدل والإحسان” الصوفية.
4. الحذر من فهم كلام الله ورسوله، وكلام السلف على الاصطلاحات الحادثة
قال شيخ الإسلام: “ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها” ( 12/ 107).
وقال ابن القيم رحمه الله: “…وينضاف إلى ذلك تنزيل كلامه على الاصطلاحات التي أحدثتها أرباب العلوم من الأصوليين، والفقهاء، وعلم أحوال القلوب وغيرهم، فإن لكل من هؤلاء اصطلاحات حادثة في مخاطبتهم وتصانيفهم، فيجيء من قد ألف تلك الاصطلاحات الحادثة، وسبقت إليه معانيها فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرد بكلامه، ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع، وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه، مع قلة البضاعة عن معرفة نصوصه. فإذا اجتمعت هذه الأمور مع نوع فساد في التصور أو القصد أوهما ما شئت من خبط وغلط وإشكالات واحتمالات وضرب كلامه بعضه ببعض، وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته” (مفتاح دار السعادة 2/271-272).
فلا يجوز حمل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة عند المتأخرين، بل إنه يحمل على المعاني التي يفهمها القوم الذين نزل القرآن بلسانهم، كما قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (إبراهيم4)؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: “الحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح” (شرح صحيح مسلم 5/63 ـ 64):
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (..لأن اللفظ لا يحمل على الاصطلاح الحادث) (فتح الباري 3/318) .
وكما أنه لا يجوز حمل كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على المصطلحات الحادثة كذلك لا يجوز حمل كلام السلف الصالح على مصطلحات حدثت بعدهم، وإنما يفسر كلامهم على حسب ما جرى به عرفهم في الكلام.
ومن ذلك مثلا: لفظ الكراهة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “…والكراهية في كلام السلف كثيراً، وغالباً يراد بها التحريم” (مجموع الفتاوى 32/ 241).
وقال ابن القيم رحمه الله: “وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك؛ حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة”.
ثم ساق نصوص السلف في ذلك ثم قال: “فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله، لكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك” (إعلام الموقعين 1/ 32-34).