في إطار الجدل القديم الحديث حول ما يسمى بحرية التعبير، التي عمت نتانتها العالم الإسلامي قبل الغربي، وأخذت أشكالا شتى، إلا أن القاسم المشترك بينها، هو التهجم على ديننا الحنيف، ومحاولة هدم أركانه، والإتيان على بنيانه من القواعد.
فهل من مقتضيات حرية التعبير الإساءة للإسلام؟
وكما هو معلوم للقاصي والداني، فإن من آخر ما تفتقت عنه “عبقرية” دعاة حرية التعبير هو الشريط المسيء لخير البرية صلى الله عليه وسلم، والذين مثلهم كمثل من يريد إثارة الغبار على الشمس، فيجد المسكين نفسه، وقد عمه الغبار هو، وتبقى الشمس نقية الوجه باسمة المحيى.
وعندما خرج الشريط التزم الكل الصمت المطبق، ولم نسمع لهم صوتا، حتى قتل السفير الأمريكي، وتوالت الهجمات على السفارات الأمريكية، فاجتمع مجلس الإرهاب على عجل، وأدان بشدة تلك الهجمات، وبالإجماع.
وعلى الرغم من أن البيت الأبيض قال: إن الشريط مثير للاشمئزاز، إلا أنه استدرك على نفسه قائلا أيضا: إن واشنطن لا يمكنها الوقوف ضد حرية التعبير. وقد أكد هذه “القناعة” أوباما، حينما خرج مهددا ومتوعدا، ثم ختم بالقول: إن المثل العليا للحرية في الويلات الأمريكية ستنتصر في نهاية المطاف.
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن التهجم على الإسلام من أركان حرية التعبير عندهم، وإلا فلماذا حوكم رجاء غارودي، وهو الذي لم يمارس حرية التعبير فحسب، التي في عرف القوم من المستحبات، بل مارس واجبا، ألا وهو البحث الأكاديمي، حول المحرقة اليهودية المزعومة!
ومن أراد الجمع بين المتناقضات، فما عليه إلا أن يضع في الحسبان الكيل الأمريكي، وستتضح له الغطرسة في أبشع صورها.
ومن صور هذه الغطرسة الأمريكية، وتناقضاتها البينة هو دعوة كلينتونة “الدول العربية لمقاومة استبداد الغوغاء”، لا لشيء إلا لأن جماهير الأمة الإسلامية عبرت عن غضبها في وجه الويلات الأمريكية، في تعبير صادق وعفوي عن حبها لنبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
أما عندما تخرج شرذمة من بني علمان على إجماع الأمة، وبإيعاز من الغرب، فهذا حق طبيعي يمارسه هؤلاء.
ولا أدري أعميت عينا كلينتونة عن غوغائية قطعان المستوطنين اليهود الذين يعيثون في الأرض المباركة فسادا بشكل يومي، أم أن لهم الحق الكامل في التعبير عن وحشيتهم بكل حرية!
ولو كانت حرية التعبير المطلقة بدون قيود مكفولة لكل إنسان فوق هذه الأرض، فلم حظرت الداخلية الفرنسية مظاهرة كان من المزمع القيام بها يوم السبت 22 شتنبر، للتعبير عن رفض الشريط المهزلة؟
أم أن حرية التعبير تبقى حكرا على من يندرج تحت عباءة الأفكار الغربية؟!
وفي نفس السياق دافع (البيت الأبيض)، عن المجلة الفرنسية المغمورة التي نشرت رسوما مسيئة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عقب الشريط سيء الذكر، وأكد المتحدث باسمه جاي كارني: “عن أهمية الدفاع عن حرية التعبير”.
لكن حرية التعبير هذه، لا تبقى مذللة، كما يراد لها كلما أسيء إلى ديننا الحنيف، عندما تمس خصوصيات أفراد منهم، بل تجابه بكل حزم، إلى درجة استخدام العنف.
وهذا ما وقع عندما داهمت الشرطة الفرنسية مقر مجلة “كلوزر” الشعبية، على خلفية نشرها لصور “دوقة كمبريدج” تظهر فيها عارية الصدر، وقد أثير جدل في فرنسا عقب الحادث، حول الحد الفاصل بين حرية التعبير والنشر، وبين احترام الحياة الشخصية للأفراد. وعلى الرغم من ذلك فقد صدر حكم قضائي بمنع تداول وبيع الصور التي تظهر فيها “دوقة كمبريدج” عارية الصدر.
هكذا يكيل الغرب بمكيالين، وهكذا يفهم الكونية التي ينعق بها بعض بني جلدتنا.. الكونية التي ينبغي ألا تصدر إلا منه وإليه.
وإن كان بعض الغرب يدافع عن الحياة الشخصية للأفراد، فإن بني علمان من بني جلدتنا لا يدافعون عن خصوصيات أمتنا، بل إنهم، خصوصا في المغرب ومصر، قد انبروا بكل وقاحة وصفاقة وعمالة وتملق، للدفاع عن الأمريكان، ولم يكلفوا أنفسهم، ولو للحظة الدفاع عن نبينا صلى الله عليه وسلم، لأنهم برهنوا بالدليل القاطع أنه ليس نبيهم. فقلبوا المعركة من إدانة الإساءة لنبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، إلى إدانة ردة فعل المسلمين!
لأنه لو كان نبيهم لغاروا عليه، على الأقل كما غارت أمريكا على سفيرها، كرستوفر ستيفنز، الذي لقي حتفه في القنصلية الأمريكية في بني غازي، إذ انتقد المتحدث باسم خارجيتها شبكة “سي إن إن” بشكل حاد، بعدما تناولت مذكرات السفير الأمريكي، في تغطية قصة مقتله،على الرغم من اعتراضات عائلته.
تعترض عائلة فتنتفض أمريكا، وتعترض أمة فلا نجد إلا الخذلان.
لكن السؤال المطروح في العمق، ومن بين أنقاض الأحداث الظاهرية هو: لم هذا الشريط المشؤوم في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا؟
إن الغرب عودنا على أنه يعمل بكل ما أوتي من قوة و مكر سياسي على ألا تقوم لأمتنا قائمة، مما يدفعه إلى ابتهال كل فرصة بين يديه، ولو لم تكن مضمونة، لإجهاض أي محاولة للنهوض، ونفض غبار التخلف.
لذلك لا يمكن أن يندرج الشريط سيء الذكر إلا تحت هذا المقصد، من خلال تشويه دول الربيع العربي، وإطفاء جذوة تألق الإسلاميين فيه، لأنه لا يوجد عاقل يصدق أن الغرب يحب لنا الخير، بله القبول بوصول الإسلاميين لقيادة دفة الأمور، لا عن طريق الديمقراطية ولا عن طريق الثورات، ولو أن زعماءه أتخمونا، إبان الثورات، باحترام إرادة الشعوب، لأن ذلك لم يكن منهم إلا انحناءة تحت العاصفة، حتى تمر دون جرفهم. علاوة على أنهم،هم أنفسهم، لم يصدقوا أن الإسلاميين استطاعوا الوصول إلى الحكم، خصوصا في مصر، بوابة النهضة العربية، على الرغم من مؤامراتهم المتوالية على المنطقة منذ غزو نابليون.
ومما يؤكد هذا الطرح أن أوباما وبين عشية وضحاها حول مصر من حليف استراتيجي، إلى بلد لا حليف ولا عدو، وهذا تهديد مبطن منه، وهو في نفس الوقت شهادة لمصر بأنها خرجت من شرنقة الخنوع، ولم تعد ذليلة صاغرة أمام الغطرسة الأمريكية، بل على العكس من ذلك، يدل على أن مصر بدأت تتلمس طريق العزة والكرامة. بدليل قول الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي: “إذا أكلنا مما نزرع، ولبسنا مما نصنع، فإن قرارنا يكون بأيدينا، ولا تأثير لأحد علينا”.
وليصدق قول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص —– فهي الشهادة لي بأني كامل
ولو على حساب حرية التعبير.
خلاصة القول:
إن الغرب لا يفوت فرصة للنيل من ديننا ونبينا ومقدساتنا، ويتبعه في ذلك بنو علمان من بني جلدتنا حذو القدة بالقدة، باسم حرية التعبير. لكن عندما يتعلق الأمر بمقدساته، ولو لحماية خصوصية الأفراد، فالحَكَمُ هو التهديد والوعيد والزجر والعقاب، ولو على حساب حرية التعبير.