الدُرَّة المنتقاة
عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».. وفي لفظ: “فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» متفق عليه.
تأملات في الدُّرة
في هذه الدرة النبوية يوصينا نبينا صلى الله عليه وسلم بالصبر في حال ما إذا رأى المسلمون من ولاة أمرهم ما يكرهون من إضاعة لحقوق الرعية، ويحذرنا من الخروج عن جماعة المسلمين، ومن شق عصا الطاعة على سلطانهم؛ نظرا لما يترتب على ذلك غالبا من سفك للدماء وانتهاك للأعراض، وغير ذلك من المفاسد المتوقعة مما هو أعظم من المفاسد الواقعة.
قال بن بطال: “في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها” (فتح الباري13/7).
هذا؛ ويعتبر الصبر على جور الأئمة من المسلمين وطاعتهم في المعروف أصلا من أصول أهل السنة والجماعة، التي انعقد عليها إجماعهم، ونصوا عليها فيما سطروه من كتب المعتقد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال: “أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم”، وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة” (مجموع الفتاوى 28/128).
وَمَضَاتُ الدُّرة
في هذه الدرة النبوية من الفوائد وجوب الصبر على جور الأئمة من المسلمين، بعدم الخروج عليهم، وبطاعتهم في المعروف، وذلك لا يمنع من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالطرق الشرعية المتاحة.
وقد جاءت نصوص كثيرة في الأمرين معا، أعني في الصبر على جور الأئمة من جهة، وفي النصيحة لهم من جهة أخرى، فلا ينبغي الخلط بين الأمرين:
• فمن الأول (الصبرعلى الجور):
– حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِى أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ قَالَ «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» (متفق عليه).
– وحديث سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ أنه سأل رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم): «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ». وقد بوب النووي على هذا الحديث بقوله: بَابٌ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَإِنْ مَنَعُوا الْحُقُوقَ.
– وحديث أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» متفق عليه. وقد بوب عليه النووي بقوله: “بَابُ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ ظُلْمِ الْوُلَاةِ وَاسْتِئْثَارِهِمْ”.
• ومن الثاني (النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر):
– حديث تَمِيمٍ الدَّارِي أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (مسلم).
– وحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»، أَوْ «أَمِيرٍ جَائِر».
– وحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ” (صحيح الجامع 3675). .
• وقد جُمع بين الأمرين (النصح للأئمة والصبر عليهم بلزوم الجماعة) في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (صحيح الجامع 6766).
وكذا جُمع بين الأمرين في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ. (متفق عليه).
فاجتمعت في هذا الحديث أمور ثلاثة، كلها من حقوق الراعي على الرعية:
1. السمع والطاعة للأئمة في المعروف وإن شق ذلك على النفس ما دام في المستطاع.
2. عدم الخروج عليهم ومنازعتهم في الأمر.
3. أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وعدم خوف لومة لائم. ويكون ذلك بالطرق الشرعية التي لا تترتب عليها مفاسد راجحة.
والحاصل أنه لا تعارض بين وجوب الصبر على جور الأئمة، وبين وجوب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالطرق الشرعية، وقد أخطأ من فهم من نصوص الصبر السكوت عن الحق، كما أخطأ من فهم من نصوص الأمر بالمعروف الخروج على الحاكم، وأسعد الناس بالحق أهل السنة؛ إذ جمعوا بين النصوص، ولم يضربوا بعضها ببعض.