يهل شهر رمضان المبارك على أمة الإسلام في كل مكان، وتهلُّ معه نفحات الأجر والمثوبة لمن يلتمس فرص الخير، استجابة لداعي الله، حيث يقبل باغي الخير، ويقصر باغي الشر. هذا الشهر العظيم الذي كان يبشِّر بمجيئه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: “إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة”. رواه الترمذي.
وفيما يتأهب الكون لولوج هذا العالم الروحاني الرحب في مدارات الرحمة والبركة والمغفرة والأمن والأمان، يتأهب ما تبقى من شياطين الإنس في التحضيرات السنوية الهائلة من عام إلى عام لصرف القلوب إلى القنوات والفضائيات والجرائد والمجلات الماجنة.
وما يكاد يقترب شعبان حتى تنفرد وسائل الإعلام في مهمات التبشير بالأعمال الإعلامية الجديدة، تلك التي توصف بأنها أعمال رمضانية، وهو وصف لا علاقة له بعبادة رمضان وطاعة الله فيه.
وتتوسع هذه الوسائل في إفراد مساحات واسعة من برامجها لعرض تفاصيل مهازل اللهو والعبث تحت مسميات عدة: “سكيتشات هزلية”، “كاميرة خفية”، “فوازير رمضانية”، “سهرات فنية” “مسلسلات”، “مسابقات”، أما الفنادق والمقاهي فبمجرد حلول الشهر الكريم تتحول لياليها إلى مرتع للخنى والفجور..
فما الذي يريده أصحاب هذه البرامج والاجتماعات الموبوءة بالعهر والتثني، والرقص والتغني؟
وما الفائدة من عرض قصص الحب والغزل في شهر رمضان الكريم؟
ولم تعرض البرامج التراثيَّة خلال الشهر بالصورة التي تشوِّه المجاهدين الأقدمين والعلماء الأسبقين والعباد والناسكين؟
إن المرء لا يفهم من ذلك إلاَّ ما أخبرنا عنه ربّ العزة والجلال حين قال: “وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً”.
قال صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، وقال: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. متفق عليه.
قال ذلك عليه الصلاة والسلام ليبين مجال السباق الرمضاني في مسارات الصيام والقيام، وقيام ليلة القدر، والثمن مغفرة تجعله في حل مما أذنب فيما سبق من حياته!! فأي سباق هذا؟ وأي جوائز رمضانية عامة لا يحرم منها أحد ممن وفق للعمل وأخلص؟
سباق جائزته لا هموم معها ولا غموم، ولا ضيق بعدها ولا شقاء، فكم من حسير فقد برحيل الشهر نعمة إصلاح العلاقة مع الله في أعظم مواسم التوبة والعفو والمغفرة، أولئك الذين ذهبت أوقاتهم نهبًا بين لصوص رمضان المحترفين المجندين للتضليل والتضييع، المتخصصين في أعمال السطو الموسمية، المبدعين في تمرير أيام الشهر على جناح الغفلة، المتمكنين من استلاب الناس وسرقة روحانية الشهر الكريم، وفرص الأجر بين الذكر وقراءة القرآن والاعتكاف، وسائر العبادات فروضها ونوافلها، المجتهدين في فتح أبواب الوزر ليلج الضعفاء السائرون المستدرجون لولوجها بالشهوات.
إنه من المعلوم أن مواسم الخير يضاعف فيها الأجر وكذا الوزر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي وقع على امرأته نهار رمضان بأعظم الكفارات، وهي كفارة القتل خطأ والظهار: عتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وغلظ الكفارة من غلظ الذنب، وقد استوجبها لما واقع حليلته (زوجته) في نهار رمضان، في الوقت المحرم، فالذنب في رمضان ليس كغيره، وإذا كان هذا التشديد والوعيد والعقوبة في حق من انتهك الشهر مع حليلته، فكيف بمن ينتهكه مع خليلته أو حليلة جاره أو بغي؟