الكبر والغرور من الأدواء المهلكة لأصحابها، فقد كانا السبب في أول معصية عُصي الله بها بعد خلق آدم، فهما اللذان حملا إبليس على ترك السجود لآدم، كما قال تعالى: “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ” البقرة34، وحين قال الله له: “مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ”، أجاب بقوله: “أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ”، فرأى إبليس بفهمه الفاسد ونظره الكاسد أنه أفضل من آدم، وأن الله سبحانه لم يعدل حين أمر الفاضل بالسجود للمفضول، وأي غرور أعظم من أن يرى المخلوق نفسه أعلم من خالقه.
ولذلك كان جزاء إبليس هو الطرد من رحمة الله والإبعاد عن الجنة، فإن الله لم يجعل فيها نصيبا للمتكبرين، كما قال تعالى :”فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ” (الأعراف13)، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” (مسلم)، وقال عليه الصلاة والسلام: “تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم..”الحديث (متفق عليه).
وكما أن الكبر والغرور كانا سببا في شقاء إبليس، فإنهما قد حملا ذا الخويصرة التميمي على أن قال للرسول صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين: “يا رسول الله اعدل”، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل” (متفق عليه). فرأى هذا المغرور الآخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جار ووقع في المنكر، وأن فهمه وعلمه يؤهلانه لأن يغير هذا المنكر الذي ارتكبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكت عنه الوحي الذي لم يقر الرسول الله صلى الله عليه وسلم على خطإ أبدا، فعِوَض أن يتهم رأيه وفهمه عمد إلى اتهام ربه ونبيه؛ ولذلك لم يتردد عمر في قوله: “يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه”، وفي رواية: “دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق”، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية”. وفي لفظ قال:”يخرجون على حين فرقة من الناس”.
فما أشبه قول ذي الخويصرة: “اعدل” بقول إبليس: “أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ”، فإبليس لم يرض بقسمة الله ورآها ظلما، وذو الخويصرة لم يرض بقسمة رسوله ورآها جورا.
ثم إنه قد تحقق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فخرجت الخوارج حين جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ما جرى، والمثير أيضا أنهم لم يتورعوا عن مخالفة الصحابة جميعا، بل وعن تكفيرهم، ورأوا أنهم أعلم بكتاب الله وبدين الله من المهاجرين والأنصار. وقد نبههم إلى هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين ناظرهم وكانوا ستة آلاف، فقال لهم: “أتيتكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون، وتخبرون بما تقولون، فعليهم نزل القرآن وهم أعلم بالوحي منكم، وفيهم أنزل وليس فيكم منهم أحد”، ثم ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما فيما ينكرونه على علي رضي الله عنه فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار (أخرجه البيهقي والنسائي في الكبرى)، وقد كان يكفيهم من مناظرة ابن عباس رضي الله عنه لهم قوله: “وليس فيكم منهم أحد”، لكنه الغرور والتعالم.
ثم إن الخوارج لم ينقرضوا منذ برز قرنهم، فلقد صدق من قال: “لكل قوم وارث”، وهم موجودون في زماننا بأسماء مختلفة، لكن الأصول هي الأصول، والغرور هو الغرور، فإذا تأمَّلت حال خوارج هذا الزمان وجدتهم كأسلافهم قوما أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، ليس فيهم من هو معروف بعلم، أو له قدم صدق في الدعوة إلى الله.
فإذا سألتهم من أفتاكم من علماء الأمة بهذه التفجيرات التي ملأتم بها الدنيا؟
من أمركم بهذا الفساد الذي سميتموه جهادا؟
لم تجد فيما يسمون لك عالما واحدا؛ بل كل من هو معروف بشيء من العلم يحذر منهم ومن أفعالهم.
فيا أصحاب هذا المنهج الفاسد استيقظوا من غفلتكم، وأوبوا إلى رشدكم، وارجعوا إلى العلماء الموثوقين من أمتكم، فأما بن لادن فرجل أعمال درس الاقتصاد، وأما الظواهري فطبيب للعيون، ليس لأحدهما تخصص في العلوم الشرعية، فإن كانا عندكم من العلماء فسموا لنا شيوخهما، والمتون العلمية التي أخذاها عنهم، وسموا لنا مؤلفاتهما في أبواب العقيدة أو في الحديث ومصطلحه، أوفي الفقه وأصوله، أو في القرءان وعلومه.. أو فيما شئتم من العلوم الشرعية، أو على الأقل أرشدونا إلى شروح لهما في فن من الفنون، فإن عجزتم عن ذلك، ولم تجدوا للقوم غير فتاوى التكفير والتفجير، أو الخوض في الأمور السياسية الكبيرة، فاعلموا أنكم تتبعون أحفاد ذي الخويصرة المغرور، وورثة منهج الخوارج الذين خرجوا عن علماء الأمة، ورأوا أنهم أعلم بالحق من الصحابة.
فإن عميت بصائركم فأرونا بماذا نفع هذا المنهج الإسلام والمسلمين، سوى أن فتح الباب أمام أعداء الإسلام ليشوهوا صورته عند الجاهلين بحقيقته، وليحاربوه تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”.
فالتوبة التوبة، وإياكم والغرور، فإنه يدعو إلى الفجور”وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” الأنفال، ورحم الله من عرف قدره فوقف عنده.