أطلت علينا مجددا دعوات ماكرة خبيثة، للنهوض بالدارجة العامية كلغة وطنية، بل إقصاء اللغة العربية وإحلال لغة (الزناقي والدروبا والتخلف والتسكع..) مكانها، وهي دعوة استعمارية قديمة، تعيد بعض الجهات المشبوهة إشعال فتنتها كمنتدى “داموس” ومؤسسة “زاكورة”؛ وغيرها من بؤر الفساد والخلايا النائمة، التي أصبحت تقيم اللقاءات والمؤتمرات لسب اللغة العربية ولعنها، وهو أمر غريب وعجيب لم يحدث في زمن من الأزمنة، ولا في مكان من الأمكنة، إلا في هذه البلاد التي ضاقت على أهل الحق واتسعت لأهل الباطل.
يشهد التاريخ أن الدعوة للعامية بدأت لأغراض استعمارية، تسترت أحيانا بالدعوة لإصلاح قواعد اللغة العربية، ودعت أحيانا أخرى لكتابة اللغة العربية بأحرف لاتينة، ودعت مرات لاعتماد اللغة العامية بدل العربية.
كما يشهد التاريخ أن أصحاب هذه الدعوات، كانوا أناسا مشبوهين، بدءا بداعية التغريب والتخريب رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم. ولا تزال هذه الدعوة تثور بين حين وحين، فتهيج ثم تعود إلى السكون، ويطل دعاتها برؤوسهم ثم يختبئون، كما تتحصن الجراثيم داخل أغلفتها حين تحس من قوى الجسم الدفاعية مقاومة وصلابة وعنادًا، منتظرة مواتاة الفرصة لهجوم جديد .
ولقد سجل الأديب لطفي المنفلوطي بقلمه الرشيق وأسلوبه الأنيق، الترويج للعامية من طرف الإنجليز وعملائه بشتى الوسائل والطرق. فيفتتح مقالته “الملاعب الهزلية” بقوله:
“كنت آليت على نفسي منذ أعلنت هذه الحرب، قبحها الله وقبح كل ما تأتي به، ألا أكتب كلمة في صحيفة سيارة في شأن من شؤون العامة خيرها وشرها حتى ينقضي أجلها… ولكن نازلا نزل بهذا المجتمع المصري منذ عام أو عامين، لم أحفل به في مبدئه، ولم ألق له بالا… ولكن ها قد مضى العام والعامان، وهو باق في مكانه لا يتحول، ولا يتحلحل، بل تزداد قدمه على الأيام ثباتا ورسوخا، إن لم نثر عليه معشر الكتاب حربا شعواء تهز جدرانه هزا، وتدكه دكا، وتلحق أعاليه بأسافله، لذلك كتبت هذه الكلمة غير مبال بتلك الإلية التي كنت آليتها”.
فيتعرض كاتبنا لبعض الفرق الفنية والمسرحية التي ظهرت في تلك الفترة، بغرض تمييع المجتمع، وضرب قيمه ونشر الفساد والرذيلة بين أفراده، ويتحدث عن أهدافها ووسائلها وطريقتها في الوصول إلى أغراضها الدنيئة، وكأنه يتحدث عما يقترفه علمانيو هاته البلاد، ولا عجب، فكلهم أدوات صنعوا في مصنع واحد، وكلهم عبيد يخدمون نفس السيد.
يقول عنهم المنفلوطي رحمه الله: “ويهدمون اللغة العربية هدما بهذه اللهجة العامية الساقطة التي يكتبون بها رواياتهم، وينظمون بها أناشيدهم، وينشرونها في كل مكان، ويفسدون بها الكلمات اللغوية في أذهان المتعلمين، ثم يزعمون بعد ذلك أنهم أنصار اللغة العربية وحماتها، فيقولون بتلك اللهجة العامية الساقطة (ومالها لغتنا العربية، آل همجية، يادي المصيبة يادي العار، فشر … دي لغة المدنية اتمسكوا بها صغار وكبار). ولا يستحيون أن يجمعوا في نشيد واحد من رواية واحدة بين قولهم (أبيع هدومي عشان بوسة، من خدك القشطة يا ملبن، يا حلوة زي البسبوسة يا مهلبية تمام وأحسن) وبين قولهم (مصر يحميك ربك، ما تشوفي إلا أيام سعدك) أي أنهم يصفعون الأمة على وجهها هذه الصفعات المؤلمة، ثم يحاولون أن يترضوها بعد ذلك بترديد كلمات الوطنية وحب وطنك والموت في سبيل الأوطان، وأمثالها من الكلمات العذبة الجميلة التي لا معنى لها في أفواههم إلا أنهم يعتقدون أن المصريين قد بلغوا من الغفلة والبله مبلغا لا يبلغه أطفال المكاتب، ولا سكان المارستانات”.
ولأن العلمانيين كالذباب لا يسقط إلا على القاذورات، فإنه ما من فساد وإفساد إلا وتجدهم رأسا فيه، دعاة إليه، سعيا منهم لهدم الدين، وإشغالا للمسلمين بنقاشات ومواضيع عقيمة، إذ لا ينتعش سوقهم ولا تنفق بضاعتهم إلا في مثل هذه الأجواء. فما من شك أن القوم أصحاب أجندات وبرامج ومخططات أجنبية قذرة، شأنهم شأن أسلافهم من الخونة والمرتزقة، لكن الغريب أن هؤلاء المرضى أذناب الاستعمار المتنكرين للغتهم، لا يحاسبون ولا يراقبون، رغم أن ما يدعون إليه مخالف لدستور البلاد. والله المستعان.