إلى حدود الساعة الحادية عشر والنصف من صباح يوم الخميس 28 أبريل كانت المدينة الحمراء عاصمة النخيل تعيش يومها كباقي أيام السنة؛ وكانت الحركة بساحة جامع الفنا حركة عادية؛ إلى حدود الساعة الحادية عشر وخمس وأربعين دقيقة؛ حيث كانت المدينة على موعد مع عمل إجرامي؛ راح ضحيته ستة عشر شخصا من جنسيات مختلفة وجرح أكثر من ثلاثين؛ تغيرت حينها معالم الساحة الشهيرة؛ واكفهرت وجوه المراكشيين الذين اعتدنا منهم البهجة والنكتة الطريفة.
فهذا الحادث الإرهابي الذي روع ساكنة المدينة وأقض مضجع كل المغاربة المحبين للأمن والسلم؛ والطمأنينة والسلام؛ يضع أمامنا أكثر من علامة استفهام ويدفعنا إلى التساؤل عن الجهة التي من مصلحتها القيام بهذا العمل الإجرامي المخالف لكل القيم والأعراف؛ ومَن مِن مصلحته القيام بهذا الجرم في هذا الموقع التاريخي بالضبط وفي هذه الظرفية بالذات؟ وما هي الرسالة التي يريد هؤلاء المجرمون إيصالها من خلال هذا السلوك الاستفزازي؟
من المؤكد أنه كان من الممكن أن يكون أي أحد منا يومه الخميس في مقهى “أركانة” المطل على ساحة “الفنا” المصنفة من طرف اليونسكو في قائمة التراث الإنساني العالمي؛ فجرم الإرهاب يمكن أن يطال شرره أيا منا؛ في أي مكان وفي أي زمان؛ فهو أمر يتهدد أمن الناس وسلامتهم؛ ولا يخفى على عاقل منزلة نعمة الأمن وأنها من أعظم النعم التي تفضل الله بها على عباده؛ ويكفي أن نعلم أن الله تعالى قد امتن على قريش بهذه النعمة فقال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} ولما دعى إبراهيم ربه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}.
وإذا كانت الثورات التي اندلعت في العديد من الدول العربية قد أزهقت بسببها أنفس كثيرة؛ وراح ضحيتها العديد من الأبرياء؛ ورفع فيها الشعار الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام”، فإن المغرب قد شكل استثناء عن باقي الدول التي اندلعت فيها تلك الثورات؛ فقد خرجت المسيرات إلى الشوارع الرئيسة والأحياء الشعبية في أغلب مدن المملكة؛ ورفع فيها شعار “الشعب يريد إسقاط الفساد”؛ وهي إشارة واضحة من الشباب المتظاهر إلى تمسكهم بملكهم؛ وأن ثورتهم استهدفت رموز الفساد ولم تستهدف النظام؛ ولم يسجل خلال تلك المسيرات أعمال شغب وانزلاقات أمنية إلا في أحداث لا تكاد تذكر؛ واتسمت تلك المسيرات بسلمية طبعها، وبتعقل وحكمة كبيرة أيضا من طرف الجهات الأمنية.
وهو ما جعل المراقبين والمحللين والناشطين السياسيين يجمعون أن حادث مراكش استهدف التشويش على الحراك السياسي الذي تعرفه المملكة، وخلط الأوراق في منعطف إصلاحي حاسم. وحذروا من ركوب “لعبة الاستفزاز”، الرامية في نظرهم، إلى تبديد أجواء الانفراج السياسي التي أعقبت مبادرات من قبيل إطلاق إصلاح دستوري واسع، والإفراج عن مجموعة من معتقلي الرأي والمحسوبين على تيار ما يدعى بـ”السلفية الجهادية”، الذين اعتقلوا في أعقاب أحداث 16 ماي وأفرج عن بعضهم مؤخرا بعفو ملكي.
فهذا العمل الإجرامي لم يستهدف السياحة في المغرب بقدر ما استهدف المشروع الاصلاحي الذي تشهده الساحة الوطنية؛ والمطالب الشبابية بمحاسبة رموز الفساد السياسي والاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إصلاحات شاملة.
وبروز حدث من حجم العمل الإرهابي -الذي شهدته مدينة مراكش- على الساحة الإعلامية والسياسية من شأنه أن يستحوذ على النقاش العمومي ويضعف الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير؛ ومن شأنه أيضا أن يؤثر على الإصلاحات الكبرى المعلن عنها من طرف الملك؛ وفي هذا الجو المشحون ستجد جهات أخرى لنفسها مسوغا لإصدار أحكام جاهزة تعيد إلى الأذهان شريط 16 ماي وما صاحبه من خروقات أمنية واعتقالات تعسفية واسعة.
فعقب أحداث 16 ماي الأليمة استغل العلمانيون الوضع جيدا وقلبوا معاطفهم وانتفضوا انتفاضة من كان يبحث عن مستمسك يبقيه على قيد الحياة؛ وركبوا على الأحداث الدامية ليُدخلوا الإسلام في قفص الاتهام؛ وصرح آنذاك أحد كبراء أحزابهم أنه: “ليس في القنافذ أملس فالإسلامي المتطرف لا يمر إلا عبر الإسلامي المعتدل”، ولعبت الصحافة العلمانية آنذاك دورا كبيرا في النيل من كل الجماعات الإسلامية بدون استثناء؛ وتنادى القوم إلى التصدي لكل مظاهر التمسك بالدين؛ وصوروا المساجد مشاتل لتفريخ الإرهابيين؛ ودور القرآن الكريم محاضن المتطرفين، أما من اعتقلوا بتهمة الإرهاب فلا تسأل عما ألصق بهم من تهم دون بينة ولا دليل.
وبعد وقوع أحداث مراكش الدامية يحاول العلمانيون اليوم العزف على الوتر نفسه؛ حتى قبل إعلان لجنة التحقيق في العمل الإرهابي عن نتائجها؛ وهو الأمر الذي ابتدأه مدير نشر يومية “الأحداث المغربية” أثناء استضافته على “بلاطو” القناة الثانية 2M؛ وأكدته بعد ذلك هيئة تحرير اليومية إبان تغطيتها لمجريات أحداث مراكش؛ حيث ربطت العمل بأحداث 16 ماي وبتنظيم القاعدة؛ واعتبرت أن “المغرب ليس قلعة حصينة وأنه مستهدف بدوره من طرف الجماعات الدينية الراديكالية”.
في حين طرح الباحث محمد ظريف سؤالا جوهريا “حول دلالة وقوع هذا الحادث في هذه الظرفية بالذات التي يعيش خلالها المغرب نوعا من الحراك السياسي عقب خطاب 9 مارس؛ والتي تعرف انكبابا على القيام بإصلاحات مؤسساتية وسياسية عميقة؛ بالإضافة إلى الحديث عن إجراءات ببدايات الطي لملف المعتقلين السياسيين والإسلاميين الذين كان من بين المفرج عنهم رموز السلفية الجهادية..”.
وقال: “وفي خضم الحديث عن الحراك الذي يعرفه المغرب فوجئنا ببعض الأخبار والأشرطة التي تنسب إلى القاعدة كالشريط الذي رأيناه مؤخرا حيث تتوعد المغرب في حال لم يتم إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين؛ وبغض النظر عن مصداقية هذه الأشرطة فإن مسألة أن يتم الانتقال مباشرة من الوعيد الذي تضمنه شريط القاعدة ضد المغرب إلى الفعل المباشر اليوم في مراكش تثير التساؤلات”.
وأفاد أنه: “لا يجب التركيز على جهة واحدة وينبغي طرح كل الفرضيات التي تتعلق بالجهات التي يمكن أن تستفيد من الحادث؛ سواء داخل أو خارج المغرب؛ بمعنى آخر إذا كانت هناك جهات تريد عرقلة مسار الإفراج عن المعتقلين السلفيين من خلال العفو الملكي وبالتالي عدم السماح بحدوث تطبيع في العلاقة بين المؤسسة الملكية والتيار السلفي؛ فهذه الجهة لا ينبغي أن تنجح في مقاصدها؛ ولا يجب السماح لأحد بعرقلة هذا المسار”.
وفي ظل الأحداث الراهنة فالدولة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاتصاف بالتعقل والحكمة البالغة في التعامل مع هذا الملف؛ لتفويت الفرصة على المتربصين بالمشروع الإصلاحي الذي يشهده المغرب في الخارج وجيوب المقاومة في الداخل؛ الذين يسوؤهم طي صفحة الماضي والتصالح بين أبناء الشعب المغربي.
لذا بات لزاما علينا جميعا التعقل والاستفادة من تجارب الماضي في تدبير مثل هذه الملفات؛ والحذر من أعداء الحرية في الداخل والخارج ومن أبواقهم التي ثبت تورطها بالحجة والبرهان في تزييف الحقائق وتوريط الأبرياء؛ والمضي قدما في طريق العدالة والكرامة؛ خاصة وأن الملك محمد السادس قد أصدر تعليماته لكل من وزيري الداخلية والعدل في مستهل أشغال المجلس الوزاري، الذي ترأسه بالقصر الملكي بفاس، كي تقوم السلطات المختصة بفتح تحقيق قضائي لتحديد أسباب وملابسات الحادث الإرهابي الذي ضرب مدينة مراكش والتعجيل بإخبار الرأي العام بنتائج هذا البحث، بما يقتضيه الأمر من شفافية، وكشف للحقيقة ومن التزام بسيادة القانون، وحفظ للطمأنينة ولأمن الأشخاص والممتلكات، في ظل سلطة القضاء”.